تفسير قوله تعالى: (علم القرآن، خلق الإنسان)
إن من أعظم رحمة الله: الهداية، ولما كانت الهداية لا تتم إلا بالوحي؛ لأنها لا بد أن تكون على بينة عن طريق الرسول، والرسول يكون موحى إليه، وأعظم الوحي الكتب السماوية، وأعظم الكتب السماوية القرآن، وقد ذكر الله بعد ذكره اسمه الكريم: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: ١] أعظم رحمة أعطاها الله جل وعلا لخلقه فقال: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ٢].
فالقرآن أعظم رحمة موجودة في الأرض؛ لأن من سلك منهج القرآن قاده القرآن برحمة الله إلى جنات النعيم، ورضوان رب العالمين جل جلاله، وكان القرشيون يزعمون أن ما يقوله النبي ﷺ وما يتلوه عليهم إنما هي أمور اكتتبها، قال الله حكاية عنهم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥]، فأجابهم الله: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: ٦]، وهذه السورة -أي: سورة الرحمن- هي أحد الأجوبة على كفار قريش بأن القرآن من عند الله.
فلذلك قال الله جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢]، وقد قلنا في درس سابق: إن النعم يمكن تقسيم أعلاها إلى قسمين: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، ونعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد؛ لأن نعمة الخلق والإيجاد يشترك فيها بنو آدم مع البهائم، فكلهم مخلوقون موجودون، لكن نعمة الهداية والإرشاد اختص الله بها المؤمنين المتقين الأصفياء الأولياء الصالحين من عباده.
فهذه إنما خص الله جل وعلا بها بعضاً من خلقه من بني آدم، ولم تؤت لكل أحد، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه.
لذلك قال الرب جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢]، واتفق النحاة على أن (علم) تأخذ مفعولين، وقد ذكر الله جل وعلا أحدهما هنا، والصواب: أن المفعول المحذوف هو المفعول الأول، وأما تقديره فاختلف العلماء فيه، لكن أظهر الأقوال أن يقال: ﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: ١]: علم نبيه القرآن.
فيكون في هذا المعنى رد على من قال: إن محمداً جاء بالقرآن من عنده.
وقلنا: إن هذا القرآن هو الطريق إلى جنة عدن، قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)، وقال كما في صحيح مسلم: (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي).
فالمقصود من هذا: أن كتاب الله جل وعلا هو الطريق الوحيد إلى رضوان الله، وهو متضمن الأمر باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩].
وهذه السورة تضمنت مواقف إيمانية عظيمة، نبدأ بها على هيئة قضايا كالآتي: القضية الأولى: تكرر في هذه السورة قول الرب جل وعلا: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣]، والمخاطب بهذه الآية الثقلان: الجن والأنس.
وقد وردت هذه الآية مكررة في السورة نفسها (٣١) مرة، وقد صح عنه ﷺ -كما روى الترمذي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه- أنه لما: (خرج على الصحابة قرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فلما قضى سكتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قرأتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟! قال: إنني لما قرأتها على الجن كنت كلما تلوت: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣] قال الجن: لا نكذب بأي من نعم ربنا، فلربنا الحمد)، فهذا الحديث حسنه الألباني رحمه الله في الصحيح الجامع، وقلت من قبل: رواه الترمذي من حديث جابر.
والمقصود: أن فيه دلالة على أدب الجن مع ربهم تبارك وتعالى.
إذاً من السنة أن الإنسان إذا تليت عليه هذه السورة في غير الصلاة أن يقول: ولا نكذب بأي من آلاء ربنا ولربنا الحمد، أو يقول ما يقرب من هذه العبارة.
وهذه السورة -كما قلت- تزخر بالكثير من القضايا الإيمانية، أولها: معنى كلمة الرحمن، وقلنا: إنها مختصة بالرب تبارك وتعالى، ولا يصح إطلاقها على كل أحد.