تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)
قال الله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]، في هذه الآية مباحث: المبحث الأول: اختلف العلماء في المقصود بالنجم في هذه الآية على قولين: الأول: أن النجم قرين الشجر، فالشجر هو النبات الذي له ساق، والنجم هو النبات الذي لا ساق له، فيصبح المعنى: أن النبات الذي له ساق والنبات الذي ليس له ساق كلاهما يسجدان لله.
والحجة لمن قال بهذا: هو أن الله عطف النجم على الشجر، والشجر بالاتفاق: هو النبات الذي له ساق، فكان النجم خلافه.
القول الثاني: أن النجم هنا هو النجم المعروف، أي: الذي في السماء، قالوا: ووجه القران ما بين النجم والشجر: أن المزارعين الذين يزرعون الشجر إنما يزرعون توقيتاً على مطالع البروج والنجوم، فشيء يزرع في الخريف، شيء يزرع في الشتاء، وشيء يزرع في الصيف، بحسب أحوال كل زرع، وهذا أمر يعرفه المزارعون بالاتفاق، فقالوا: إن النجم هنا هو النجم الذي في السماء، ولهم حجة في القرآن: وهي أن الله جل وعلا ذكر السجود فقرن ما بين سجود النجم وسجود الشجر، وذلك في قوله جل وعلا في سورة الحج: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨].
فقالوا: إن الله هنا أثبت في هذه الآية سجود النجم الذي في السماء، وسجود الشجر، وقالوا: هذه قرينة على أن المقصود بقول ربنا جل وعلا: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]: النجم الذي في السماء.
والله أعلم بالصواب.
وقد سقنا كلا القولين اللذين قالهما العلماء، والذي يهمنا بصورة أكبر هو أن الله جل وعلا فطر الخلق على السجود له، والسجود للرب تبارك وتعالى من أعظم القربات، ومن يوم أن تلدك أمك إلى أن تحمل على النعش لن تكون في حال أنت فيها أقرب إلى الله من هيئتك وأنت ساجد، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء)؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فقمن أن يستجاب لكم) أي: جدير أن يستجاب لكم.
ومن كرامة السجود على الله أن حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود، وهذا إذا كان مؤمناً، والشفعاء يوم القيامة عندما يأتون ليخرجوا عصاة المؤمنين من النار بإذن الله يجدون أن النار قد أحرقت منهم كل شيء إلا مواضع السجود.
وقد قال الله جل وعلا في سورة الرعد: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥]، وقال جل وعلا في سورة النحل: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: ٤٨ - ٤٩].
والمقصود من هذا: أن نبين مفهوم قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥]، وأن الكافر يسجد، ونحن نرى أنه لا يسجد، فتحمل الآية على أنه وإن لم يسجد بذاته فهو يسجد بظله.
فكأن الله جل وعلا يقول للعلماء: إن الله يهب الظل -أي: ظل العبد- إدراكاً يسجد من خلاله، فإذا انتفى سجود الكافر ذاته فإن ظله يسجد لله تحقيقاً للآية.
قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا﴾ [الرعد: ١٥] هذا سجود المؤمنين، ﴿وَكَرْهًا﴾ [الرعد: ١٥] وهذا سجود الكافرين، ﴿وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ [الرعد: ١٥].
والمقصود من هذا كله: عظيم فضيلة السجود في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦].


الصفحة التالية
Icon