تأملات في قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس)
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٦٠].
تقدم معنا أن النبي ﷺ أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقلنا: إنه يوجد قول للبعض أن الرؤيا رؤيا منامية، ورددنا على هذا، وهذه الآية إحدى الحجج عند من يقول: إن الإسراء كان رؤيا منامية.
والله جل وعلا يقول هنا: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، كلمة (الناس) هنا لفظ عام يراد به الخاص، والمقصود به كفار قريش على الأظهر، والمعنى: أن الله يخبر نبيه أنه سبحانه محيط بأمر هؤلاء، وأن أمرهم ومردهم إلى سفال ووبال، كما حصل في بدر.
أما الشق الثاني من الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، الذين احتجوا بأن الإسراء كان مجرد رؤيا منامية قالوا: إن (رؤيا) في لغة العرب مصدر من الفعل رأى، وهذا محل اتفاق، فالفعل رأى يأتي المصدر منه بصيغتين، إما أن يقال رأى رؤيا بالألف، وإما أن يقال: رأى رؤية بالتاء المربوطة.
قالوا: إن رؤية بالتاء المربوطة يعنى بها الرؤيا البصرية، ورؤيا بالألف يراد بها الرؤيا المنامية التي يسميها الناس أحلاماً، وقالوا: من الأدلة على ذلك قول الصديق يوسف لما رأى الرؤيا: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠]، ولم يقل: هذا تأويل رؤية، وهذه حجة من يقول: إن الرؤيا كانت منامية.
ونحن نقول: إن الإسراء كان حقيقة، والرد على هذا من طريقين: الطريق الأول: تفصيل الآية، والطريق الثاني: التقعيد، ونبدأ بالتقعيد العلمي، فنقول: إن العالم يأخذ بأصل، ثم إذا عارض هذا الأصل شيء من الشبهات لا يرد الأصل ويدفعه إلا بأصل مثله، ولا يرده بشبهة، لأنه لا يوجد شيء لا تقع فيه شبهات لكن يبقى على الأصل حتى يأتيه أصل مثله يدفعه، هذا التقعيد العلمي.
أما شرح الآية الذي سيجلو الخطاب، فإن الله يقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، أي: يا نبينا! ما جعلنا الرؤيا إلا لنختبر الناس ونفتنهم، فلو كانت رؤيا منامية لم يكن فيها فتنة للناس؛ لأنه ليس النبي ﷺ فقط هو الذي يرى في المنام، بل كل الناس ممكن أن يروا هذه الرؤيا، فلا يعقل أن القرشيين يكذبون النبي ﷺ وتصبح منقبة لـ أبي بكر أنه صدق النبي ﷺ في رؤيا منامية، هذا أمر لا يعقل أن يكون اختباراً وفتنة.
ثم إن الأصل الذي نستمسك به جملة الأحاديث المتواترة معنى ورواية ودراية على أن الله جل وعلا أسرى بنبيه، وقول الله جل وعلا لكفار قريش: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ [النجم: ١٢]، وقوله جل وعلا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١]، فهل يقول الله في رؤيا منامية يراها البر والفاجر والمؤمن والكافر: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١]، فلا يعقل أن يدفع هذا الأصل بشبهة المصدر في رؤيا.
الثالث: أنه ورد في كلام العرب التعبير برؤيا عن الرؤية البصرية، وإن كان قليلاً.
ثم قال الله: ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء: ٦٠].
الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم، والآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى أن الآية مقصودها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، فتكون الفتنة بأمرين: الأول: رحلة الإسراء والمعراج، والثاني: الشجرة الملعونة في القرآن.
أما الفتنة في رحلة الإسراء والمعراج فلا شك أنه اختبار للناس أن يأتي رجل يقول: إنني البارحة ارتحلت من مكة إلى بيت المقدس في بضع من الليل، وهم يضربون إليه المطي في أربعين ليلة.
وهذا من حيث العقل يرد، لكن يقبل بالقلب، ونحن نؤمن بقلوبنا قبل أن نؤمن بعقولنا، ولما قيل لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أتؤمن بهذا القول؟ قال: إنني أصدقه فيما هو أعظم من ذلك أصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فإذا جاز أن أصدقه أن الوحي يأتيه من السماء فمن باب أولى أن أصدقه أنه يغدو في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
هذه الفتنة في الرؤيا التي في رحلة الإسراء والمعراج.
أما الفتنة في شجرة الزقوم فإن الله قال عن شجرة الزقوم: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٦٤]، أي: في النار، والعقل يرد هذا؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة فكيف ينبت في النار، لكن هذا المنطق تعامل به القرشيون بالعقل ولم يتعاملوا معه بالقلب فكذبوه، حتى قال ابن الزبعرى -ويقال: إن القائل أبو جهل -: لا نعرف الزقوم إلا الزبد مع التمر فقوموا بنا نتزقم أي: نطعم الزبد مع التمر، فقال الله لنبيه: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء: ٦٠]، فالأمر يتضح بكل يسر وسهوله إذا نظر إليه الإنسان بقلبه لا بعقله البسيط، حتى لو استخدم العقل فإن الذي منح الشجرة أن تنبت في اليابسة قادر على أن يجعلها تنبت في أصل الجحيم، والمثال ينطبق على نار إبراهيم، فإن الرب جل وعلا هو الذي أعطى النار خصيصة أن تحرق، فلما وضع فيها إبراهيم منع الله جل جلاله النار أن تعطى تلك الخصيصة، فهو الذي جعل النار ذات قدرة على الإحراق، وهو ربها وخالقها، فقال لها سبحانه: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا﴾ [الأنبياء: ٦٩]، فمنعت خصيصتها وتحولت إلى خصيصة أخرى بأمر ربها برداً وسلاماً على إبراهيم، فخرج عليه السلام يمشي على قدميه والناس ينظرون، هذا معنى قوله جل وعلا جملة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء: ٦٠].