تأملات في قول الله تعالى: (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذا هو اللقاء الثالث من سلسلة تأملات قرآنية، وسنقف فيه بعض الوقفات مع سورة النجم.
وهذه السورة في أكثر أقوال علماء الأمة من المفسرين سورة مكية، وقد دل على ذلك حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فسنشرع في بيانها على ما يأتي.
صدرها الله جل وعلا بالقسم فقال تبارك وتعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ١ - ٤]، وختمهما الرب تبارك وتعالى بأن خاطب أهل الكفر بأن كتابه العظيم وقرآنه المتلو الذي نزل به جبريل على قلب محمد ﷺ أعظم ما يؤثر في القلوب ويرققها ويلينها؛ لما فيه من الوعد والوعيد، وصادق الأخبار، وبلاغة الخطاب، وتعجب الرب تبارك وتعالى من نظرة أولئك الكفرة إلى هذا الكتاب جاعلين مبدأهم به الاستهزاء والسخرية والضحك.
فقال تبارك وتعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: ٥٩ - ٦٢].
وهذه السورة جرت على سنن ونسق السور المكية في العناية بأمر العقيدة، وإثبات الرسالة، وبيان الإشارة إلى رحلة المعراج.
قال الله جل وعلا: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: ١ - ٢]، فأقسم بالنجم، وجوابه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: ٢].
وقد اختلف العلماء في المراد بالنجم هنا: فذهب فريق من العلماء إلى أن المقصود بالنجم هنا: نزول القرآن منجماً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فكلمة النجم هنا تعني: الجملة من القرآن وقت نزولها؛ لأن القرآن -كما هو معلوم- نزل منجماً -أي: مفرقاً- خلال ثلاث وعشرين سنة، نزل به جبريل على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا يكون معنى قول الرب جل وعلا: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١] قسماً بشيء وجزء وجملة من القرآن حال كونها ينزل بها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القول قال به بعض السلف قديماً، واختاره الإمام الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، وقال عفا الله عنا وعنه: وأصوب الأقوال عندي والذي اختاره أن المراد بالنجم هنا الجملة من القرآن، والمقصود بقول الله: ﴿إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١] أي: إذا نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، بل قال رحمه الله: وهي نفسها قول الرب تبارك وتعالى في سورة الواقعة ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: ٧٥] أي: بنزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وحجته في هذا أمور من أشهرها جواب القسم في سورة الواقعة، وقال الله تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٥ - ٧٦]، فقال: إن قول الرب تبارك وتعالى ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٦] أليق بأن يكون المقسم به القرآن، والجمل من القرآن أليق من النجم الذي في السماء، أو النجم الذي في الأرض -على القول بأن النجم هو نوع من الشجر- نظير قول الرب تبارك وتعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦].
هذا أحد الأقوال في معنى النجم في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١].
وأكثر المفسرين على أن المقصود بالنجم هو النجم الذي في السماء، وأن هذا أول ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق النجم.
لكن هؤلاء العلماء اختلفوا في النجم المقصود، فذهبت طائفة إلى أن النجم هنا المراد به: كوكب الزهرة، وأكثر العلماء على أن المراد بالنجم هنا السبعة النجوم المسماة عند العرب بالثريا حال سقوطها، أي: حال غروبها، وهذا القول ينسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره.
والقول الثالث: أن المقصود بالنجم هنا جنس النجم في السماء ولا يحدد نجماً بعينه، وأن الله يقسم بالنجوم جملة في السماء، وهذا القول اختاره العلامة ابن سعدي رحمه الله، وهو الذي تميل إليه النفس أكثر، والله تعالى أعلم.
فالأصل أن العلماء اختلفوا في المراد بالنجم على قولين: الأول: أن المقصود به الجملة من القرآن، والثاني: النجم الذي في السماء.
﴿إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١] أي: إذا سقط، عند طائفة، وعند آخرين إذا تناثر يوم القيامة.
وأما جواب القسم فهو قول الرب تبارك وتعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: ٢]، والمخاطب بالآية في المقام الأول هم كفار قريش المكذبون للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم، والصاحب المقصود به هنا: رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وكاف الخطاب في صاحبكم عائدة على كفار قريش.
والضلالة هي عدم العلم بالشيء، أي: الجهل، والغواية ناجمة عن ترك العمل بالعلم، وأما الضلالة فناجمة عن عدم العلم، فالله جل وعلا ينزه نبيه صلى لله عليه وسلم عن الجهالة، فأثبت له العلم بالحق لما نفى عنه الجهل، وأثبت له الهداية والعمل بالحق لما نفى عنه الغواية، فقال الرب تبارك وتعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: ٢].
قال بعض العلماء القائلين بأن المقصود بالنجم هنا هو النجم الذي في السماء: المناسبة من القسم بالنجم على صدق نبوة محمد ﷺ هو أن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، والوحي يهتدى به في الأرض، بل إن حاجة الناس إلى الوحي أعظم من حاجتهم إلى النجوم، وكما أن النجوم زينة في السماء فإن كلام الله جل وعلا زينة ونور في القلوب وزينة في الأرض.
هذا وجه المناسبة عند من قال بأن الله جل وعلا أقسم بالنجم الذي في السماء، وزادوا عليه أيضاً أنهم قالوا: إن الله جل وعلا علم من العرب أنها كانت تستخدم النجم في الهداية فتطمئن إليه في زرعها، وفي أسفارها، قال الله: ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦]، فأقسم الله بالنجم على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: كما أنكم تطمئنون إلى النجوم، وتعرفون أن النجم لا يخرج عن مساره، وأنكم ما أضلكم النجم قط ولا تتغير هدايته، وأنكم تركنون إليه، فإن الله الذي سخر لكم النجم هو الذي بعث لكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فلئن كانت النجوم تهدي في ظلمات البر والبحر فإن نبينا ﷺ يهدي إلى الجنة، ويجير الله به العباد من النار.
هذا وجه المناسبة ما بين القسم والمقسم به.
والعلماء رحمهم الله قد اختلفوا اختلافاً كثيراً في تفسير الآيات التي ستأتي، وأنا سأتكلم فقط عن الرأي الراجح، ولا يعني ذلك أنه ليس هناك آراء أخر، وإنما سنعرج على ما نعتقد أنه الصواب بيننا وبين الله.


الصفحة التالية
Icon