تأملات في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى)
قال الله جل وعلا: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٢ - ٤].
هذه الآية إحدى تزكيات الله لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي تزكية للسانه ولفؤاده، كما قال الله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: ١١]، وزكى الله البصر فقال: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: ١٧]، وزكاه الله جملة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤].
قوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم: ٣] أي: أن هذا النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يخاطبكم وفق ما تمليه عليه نفسه، ورغباته، وأهواؤه، بل القول الذي يقوله ﷺ وحي من الله.
والله جل وعلا قال: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١].
وقد مر معنا في دروس سابقة أن الوحي أول وأعظم خصائص الأنبياء، وبه يفرق ما بين النبيين وبين المصلحين في الأرض، فلا يمكن أن يرقى المصلحون من الساسة والقادة والاجتماعين وغيرهم إلى مقام النبوة؛ لأن الأنبياء يعتمدون على وحي الرب تبارك وتعالى، والله يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤].
وهذا الوحي ينزل به من السماء جبريل عليه السلام.
ثم قال الله بعدها: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: ٤ - ٥]، فهناك معَلَّم وهناك مُعلِّم، فالمعلم نعته الله بأنه شديد القوى، والمقصود به جبريل، والمعَلَّم في هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
وظاهر القرآن والسنة على أن جبريل أفضل الملائكة، وهو أول من يسمع وحي الرب تبارك وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله جل وعلا إليه بما يشاء، فإذا أوحى الله جل وعلا إليه بما يشاء مر جبريل على كل سماء، فكلما مر على سماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير)، قال الله جل وعلا: ﴿وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: ٢٣].
وهذا الملك الكريم أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي على جميع الأنبياء، وقد دلت السنة والقرآن على أن الذي ينزل بالوحي عليهم هو جبريل عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما أخبر النبي ﷺ بنعت من رأى وهو جبريل في أيام الوحي الأولى أخبر بها ورقة بن نوفل فعرف ورقة أنه جبريل، وقال: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، فهذا مما من الله به على هذا الملك الكريم عليه السلام، وقد وصف الله جبريل هنا بأنه شديد القوى، ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ [النجم: ٦] أي: ذو خلقة حسنة تامة، وهذا كله نعت لجبريل.
وقد جاء نعت آخر لجبريل في سور أخر قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: ١٩ - ٢١]، فهذا كله نعت لجبريل عليه الصلاة والسلام.


الصفحة التالية
Icon