تأملات في قول الله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)
القضية الثانية: قول الله جل وعلا: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠]، فالله سبحانه هنا يوبخ المشركين على أنهم يجعلون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع نداً لله، فالقضية التي تتعلق بهذه الآية من سورة النجم أن آخرها سجدة، فلما وصل إليها ﷺ سجد، وهذا أمر يذكر بمسألة شهيرة عند العلماء تسمى: قصة الغرانيق، والغرانيق: جمع غرنوق وهو طائر أبيض، وقصة الغرانيق قصة يذكرها المفسرون عند هذه الآية، ولأهميتها عقدياً سنتكلم عنها.
ينقل المفسرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه نقلاً غير صحيح أن النبي ﷺ لما قرأ هذه السورة وجاء عند قول الله جل وعلا: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠] زعموا أن الشيطان ألبس على النبي ﷺ فألقى في قلبه أن يقول بعد أن قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠] أن يقول: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، تلك أي: الأصنام، والغرانيق العلى أي: تطير وتعلو بعبادتهم، وإن شفاعتهن لترتجى: يزعمون أنهم فهموا أن النبي ﷺ اعترف بشفاعة آلهتهم.
وتقول القصة: إن النبي ﷺ لما سجد سجد معه كفار قريش، وذكروا أن الوليد بن المغيرة كان شيخاً كبيراً لم يستطع أن يسجد فرفع تراباً وسجد عليه؛ فرحاً منهم أن النبي ﷺ اعترف بآلهتهم.
هذا نقل.
النقل الثاني يقول: إن النبي ﷺ لم يقلها، وإنما الشيطان قلد النبي ﷺ فقال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فظن المؤمنون والكافرون أن النبي ﷺ هو الذي قالها، فلما سجد سجدوا معه فرحاً، ويزعمون أنه لما جاء المساء جاء جبريل مرة أخرى للنبي ﷺ فقال له: اقرأ علي ما أقرأتك؟ فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠]، تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى -وهذه قصة لا يصدقها عاقل-، ثم إنه غضب جبريل وقال: ما هكذا أقرأتك إياها، فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: ٥٢]، وقوله تعالى: ﴿لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٣] وهذه هي قصة الغرانيق، وهذه القصة فيها كلام من حيث المتن ومن حيث السند.
نقول جملة: هذه القصة وردت في أكثر كتب التفسير لكن علماء الأمة من أهل السنة رضي الله عنهم ورحمهم وجزاهم عن السنة خيراً ردوا هذه القصة شكلاً وموضوعاً -كما يقول المعاصرون-، وردوها سنداً ومتناً اللهم إلا ما كان من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فهو يقول: إن سندها من المرسل المقبول، لكنه لا يقول رحمه الله: إن النبي ﷺ قالها، وقد عاتب العلماء كثيراً الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله هذا.
وأما علماء الأمة قاطبة فقد ردوها متناً وسنداً، وهي لا يمكن أن تصح شرعاً؛ لأن الله يقول عن إبليس: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩]، فإذا كان إبليس بنص القرآن ليس له سلطان على أهل الإيمان، فأشرف أهل الإيمان هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف يتسلط إبليس على سيد الأولين والآخرين ﷺ ويعجز عن التسلط على غيره؟! ثم كيف يصدق الوحي إذا قلنا: إن الشيطان قابل لئن يدخل في سكتات النبي ﷺ فيقلد أمره؟! وممن اجتهد من العلماء فألف فيها رسالة جامعة نافعة: العلامة الألباني رحمه الله تعالى في رسالة أسماها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) بأسلوب علمي لتطمئن نفسك أن هذا كله قول مزعوم على نبينا ﷺ لا يمكن تصديقه، كما أن العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ذكرها في سورة الحج وفندها تفنيداً جيداً، وكذلك الشوكاني رحمه الله تعالى، ومن أعظم من فندها أبو بكر بن العربي، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن وغيرهم من أئمة المسلمين رحمهم الله سلفاً وخلفاً.
لكن رسالة الألباني أجمعها، وقد كتبها رحمه الله عام (١٣٧٢هـ) أي: قبل (٥٣) سنة، ولعلها الآن تنفعه في قبره رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وهو قال في المقدمة: إنني أسال الله أن يجعلها ذخراً لي؛ لأنني نصرت نبيه، ولعلها تنفعه برحمة الله وفضله الآن في قبره، كما نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علمنا في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة.
وأما معنى قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: ٥٢]، تمنى هنا بمعنى: تلا وقرأ، ولأن أي حكم يحتاج إلى دليل وأي نقل يحتاج إلى إسناد، فدليل ذلك من كلام العرب قول كعب بن مالك في مدح عثمان رضي الله تعالى عنه: تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر فهو يتكلم عن عثمان أنه كان يقرأ القرآن من أول النهار ومات آخر النهار وهو يقرأ القرآن، فجعل تمنى هنا بمعنى: قرأ وتلا، فهذا شاهد من كلام العرب على أنهم يستخدمون تمنى بمعنى: تلا، فقول الله جل وعلا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ [الحج: ٥٢] أي: إلا إذا تلا وقرأ ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢]، وأما معنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي: أن المؤمن الذي يسمع الكلام من النبي يأتيه الشيطان بوساوس على قلبه تقول له: هذا شعر، وهذه كهانة، وهذا نثر، وهذا كلام مسجوع، وهذا ليس بقرآن، وساوس من الشيطان، قال الله: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢] أي: لإيمان هذا العبد يذهب الله أثر تلك الوسوسة، ومعنى ينسخ: يزيل، أي: يزل الله أثر تلك الوسوسة، ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] أي: يطمئن المؤمن بأن هذا قرآن ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج: ٥٢] أي: عليم بما يصنع، حكيم فيما يصنع، وهذا بيان ما يسمى بقصة الغرانيق.