ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به، ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:

ورأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا (١)
وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله"وعلى سَمْعهم"، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب الله (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) [سورة الشورى: ٢٤].
٣٠٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع، والغشاوة على البَصَر، قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) (٢)، وقال: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [سورة الجاثية: ٢٣].
والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:
تَبِعْتُكَ إذْ عَيْني عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا (٣)
ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
(١) مضى تخريج هذا البيت في ص ١٤٠.
(٢) الأثر ٣٠٦- ساقه ابن كثير في تفسيره ١: ٨٥، والشوكاني ١: ٢٨.
(٣) الشاعر هو الحارث بن خالد المخزومي، ويأتي البيت في تفسير آية سورة الأعراف: ١٨ (٨: ١٠٣ بولاق)، وروايته هناك: "صحبتك إذ عيني.. أذيمها"، شاهدًا على"الذام"، وهو أبلغ في العيب من الذم، ثم قال أبو جعفر: "وأكثر الرواة على إنشاده: ألومها"، وخبر البيت: أن عبد الملك بن مروان لما ولى الخلافة حج البيت، فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرًا لا يصل إليه، فانصرف عنه وقال البيت الشاهد وبعده:
وما بِيَ إن أقصَيتنِي من ضَرَاعةٍ وَلاَ افْتَقَرَتْ نَفْسِي إلى مَنْ يَضِيمُها
(انظر الأغاني ٣: ٣١٧)، وبلغ عبد الملك شعره، فأرسل إليه من رده إليه.


الصفحة التالية
Icon