وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله:"وإذ قال رَبُّك للملائكة" على المعنى المقتضَى بقوله:"كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (١).
فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم، أكثرُ من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر:
أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (٢) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (٣)
فقال:"ولا متداركٍ"، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (٤)، ولا حرف

(١) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته، من أجود النظر في تأويل كتاب الله، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة، لا لرد حرف على حرف سبق.
(٢) هو للمرار بن سعيد الفقعسي، معاني القرآن للفراء ١: ١٧١، مجالس ثعلب: ١٥٩، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ)، ومعجم البلدان (ثعيلبات). وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة، من النجاء: وهو سرعة السير. والذمول: الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا.
(٣) يروى"ولا متلافيًا" بالنصب. وتدارك القوم (متعديًا)، بمعنى أدركهم، أو حاول اللحاق بهم. وتلافاه: تداركه أيضًا. والشمس طفل: يعني هنا: عند شروقها -لا عند غروبها- أخذت من الطفل الصغير. ونواشغ الوادي جمع ناشغة: وهي مجرى الماء إلى الوادي. الحمول: هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل. وسميت الإبل وما عليها حمولا، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة. يقول: لن تدركهم، فقد بكروا بالرحيل.
(٤) في المطبوعة: "يعطف عليه". وفي المخطوطة"يعطف به"، وقوله"به" ملصقة إلصاقًا في الفاء من "يعطف".


الصفحة التالية
Icon