عن المغيبات، وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلاً وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت نفساً وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلاً، ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان.
والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم يكن إلا ما ثبت في عقل الإنسان، ولهذا كان منتهى تحقيقهم الوجود المطلق، وهو الوجود المترك بين الموجودات. وهذا إنما يكون مطلقاً في الأذهان لا في الأعيان، والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي، وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا، وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والإتحادية، وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجوداً غير الوجود الواجب، وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئاً ويظنون أن ذلك موجود في الخارج، ولهذا يمدهم الشياطين، فإن الشياطين تتصرف في الخيال وتلقي في خيالات الناس أموراً لا حقيقة لها، ومحققو هؤلاء يقولون أرض الحقيقة هي أرض الخيال.
وأما ما أخبرت به الرسل موجودة من الغيب، فهو أمور ثابتة أكمل وأعظم مما نشاهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس، ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة، ويمكن أن يشاهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل، ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشاهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) وكون الشيء غائباً وشاهداً أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب عنا كان غيباً، وإذا شاهدناه كان شهادة، ليس هو فرقاً يعود إلى أن ذاته تعقل ولا


الصفحة التالية
Icon