نفسك، إنما عملك منّة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. كما أنه لا ينبغى للنفس أن تمن على الله بالعمل فتستكثره، وإذا قامت النفس بعمل جليل فليكن تعلقها فى طلب الأجر والثواب من الله وليس من الناس.
هذه المعانى وغيرها قيلت فى بيان هذه الآية الكريمة، وأظهرها ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، يقال: مننت فلانا كذا، أى أعطيته، ويقال للعطية: المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا ارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: «ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»، وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة فى شىء من الدنيا، ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية فكان يقبلها، ويثيب عليها. وقال: «لو دعيت إلى كراع لأجبت (والكراع مسترق الساق من الرجل) ولو أهدى إلىّ ذراع لقبلت».
والنفس تقوى بهذا التوجيه الكريم، لأنها سترى المنة فى كل شىء لله سبحانه فلن يكون العمل إلا له، ولن يكون التعلق إلا به، ولن يكون الطمع إلا فى رحمته وثوابه، ولن تستكثر شيئا من الأعمال التى ترضيه، فلو أطاع ابن آدم ربه العمر كله من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
ثم نجد التوجيه الكريم المتكرر فى بناء النفس، والذى وجدناه فى السور السابقة وهو الأمر بالصبر لله وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) أى ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء رسالته وعلى حسن عبادته، وعلى ما أوذيت فى سبيله، وعلى ما حملت من أمر عظيم، وعلى مواجهة التحديات الخطيرة من قبل المشركين، وعلى موارد القضاء، وعلى البلوى، وعلى الأوامر والنواهى، وعلى فراق الأهل والأوطان. وكل ذلك كان يتعرض له المؤمنون فى تلك الفترة.
فهذه مجموعة من المدعمات فى أول سورة المدثر تتبع ببيان ما ينبغى أن يحسب الناس له حسابا من اليوم العسير على الكافرين: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) وعلى ذلك تعطى الآيات لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مادة الإنذار باليوم الآخر ثم تقديم الإنذار فى عرض نموذج لرجل من الكافرين خص بكفر النعمة، وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم وكان يسمى بالوحيد فى قومه.