إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥).
وهذا الوصف الدقيق له دلالات متعددة، إنه وصف لهذا العناد الذى أعمل فيه الوليد فكره، وخالط هذا الفكر نفسه، وخرج هذا فى سلوكه، فى فطرته، فى عيونه، فى سواد وجهه حقدا وغيظا، فى حركته إدبارا، واستكبارا، فى قوله وإشاعاته وحكمه الباطل على الحق بما ليس فيه. إنه فكر وقدر يعنى: فى شأن النبى صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذى استمع إليه ونطق لسانه بما عرف فقال: «والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر» «١»، وفكّر فى موقف زعماء المشركين منه، ومكانته فيهم فلم تنفعه هذه المعرفة لما سمع، وغلبه هواه وغلبته عصبيته، واستكباره فيهم فهيأ الكلام فى نفسه، والعرب تقول: قدّرت الشيء إذا هيأته: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) أى لعن على أى حال قدر، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) إنه لأمر مهول أن يغالط الإنسان نفسه، فيعرف أمرا على وجهه الصحيح ثم يهيئ فى نفسه ما يخالف هذا الأمر، لعن لعنا بعد لعن كيف يكون هذا حاله؟ وبدأ أثر التفكير والتقدير يظهر فى نظراته الحسية غيظا، وفى نظره المعنوى بأى شىء يرد هذا الحق ويدفعه، ويظهر فى عبوسه فى وجوه المؤمنين عند ما دعوه إلى الإسلام، ويظهر كذلك فى كلاحة وجهه وتغير لونه، ويظهر كذلك فى إدباره وإعراضه وذهابه إلى جانب أهله المشركين، وفى استكباره أن يؤمن ويصير مع المؤمنين.
ولكن ماذا يقول فى الرسول صلّى الله عليه وسلم وفى القرآن الكريم الذى عبر عنه التعبير السابق ولامه عليه المشركون، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) لقد كذب الوليد وكذب نفسه فى الوصفين، فقد رد على الناس وصفهم للرسول صلّى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وقال كذلك بعد سماعه القرآن الكريم: وما يقول هذا بشر.
ولقد أراد بهذا تشويه شخصية النبى صلّى الله عليه وسلم عند ما لا يعرفه من القادمين إلى مكة، وأراد أن يقول لهم: إن من يتبعه ليس عن اقتناع منه بل نتيجة سحره، وبهذا يكون قد طعن فى القرآن الكريم- أيضا- ولذلك استحق لعنا بعد لعن: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠).
ومن وجوه الإنذار التى أمر النبى صلّى الله عليه وسلم أن يبلغها الناس فى سورة «المدثر» والتى

(١) القرطبى ١٩/ ٧٤.


الصفحة التالية
Icon