تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩]، ويجمع ابن عباس بين المعنيين فيقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدّم إلى الطاعة والإيمان جوزى بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلّى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع، وأما السدى فيقول: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ- إلى النار (المتقدم ذكرها) - أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) - عنها إلى الجنة.
وعلى كل حال فتقرير المسئولية عما يكتسب الإنسان تنبيه «مبكر» يجعل الإنسان يسأل نفسه عن الإقدام والإحجام، ويربى فى النفس هذه الملكة التى تسأل وتراجع وتراقب قبل العمل، وبعده لنجد النفس المحامية المراقبة اللوامة قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) أى مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها.
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) وهذا الاستثناء الحكيم ليس فيه ما قد يفهمه البعض من الخروج عن قاعدة المسئولية الفردية، بل هو تدعيم لها فإن أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم؛ لأنهم إما أن يكونوا غير مكتسبين للذنوب، أو أدوا ما كان عليهم. ولذلك اختلف فى تعيينهم، فابن عباس فى الدين يقول: إنهم الملائكة وهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وعلىّ بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: إنهم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم، وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.
فالمسئولية- إذن- مقررة كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨).
ويأخذ الإنذار وجها آخر فى هذه السورة الكريمة المنذرة، وهو عرض للمقارنة بين تبصير المؤمنين والكافرين، وذكر ما يتصل بالفريقين من أعمال، ومعنى ذلك أن من فضل الله على خلقه أن تتعدد الأساليب تشجيعا لأهل الإيمان، وحفزا لهممهم للقيام بتبعات الدعوة ومسئولياتها، وتحذيرا لأهل الشرك حتى يعودوا إلى الحق والرشاد ويتخذوا سبيل المؤمنين وإلا فالمصير أليم، فالمؤمنون الصالحون أصحاب اليمين فى الجنات وما أعد الله لهم فيها، والمشركون يوصفون بالإجرام؛ لأنهم أجرموا فى حق أنفسهم، وفى حق غيرهم ممن وقفوا منهم موقف الإيذاء والتعذيب والسخرية والاستهزاء، وحال الفريقين مكشوف وظاهر، أما أهل الإيمان فهم فى أمن وسلام ونعيم يسمح لهم بهذا التساؤل عن غيرهم، والتساؤل- هنا- عن المجرمين، وعن الأعمال التى أدخلتهم سقر وكانوا بها مجرمين، وتعرض السورة الكريمة المنذرة أقوال أهل سقر والتى تتضمن


الصفحة التالية
Icon