فيه، وأما فساد التصور الذى قام عليه هذا الإعراض فيتمثل فى فهمهم الفاسد للنبوة ووظيفتها ومهمة الرسل فى تبليغ ما أمروا به، وأن الله مصطف من عباده من يشاء لهذه المهمة، ولا يخاطب كل فرد من خلقه خطابا منفردا كما أراد أبو جهل، وجماعة من قريش حين قالوا: يا محمد: ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إنى قد أرسلت إليكم محمدا صلّى الله عليه وسلم «١»، وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل.
وقال المشركون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: بلغنا أن الرجل من بنى إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، قال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلانا بن فلان. إنه فساد فى تصور النبوة من جانب وحقد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جانب آخر لفساد نفوس المشركين، وفساد مقاييسهم للبشر، فهم لا يريدون هذا الأمر لمحمد صلّى الله عليه وسلم؛ لأن مقياس العظمة عندهم لم يكن فيما يرزق الإنسان من كمال الأخلاق ومكارمها، بل من كثر ماله وكثر رجاله يعد عظيما فيهم، وحصروا بهذا المقياس الأمر فى رجلين ذكر القرآن الكريم قولهم فيهما:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) [الزخرف] ورد عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: ٣٢].
وأما العجب فى هذا الإعراض فإنه يكمن فى مظهر هذا الإعراض، إن الإعراض يكون طبيعيا عند ما يكون من شىء يضر الإنسان، أما الإعراض عما ينفع فهذا يدعو إلى العجب، ويدل على أسباب فاسدة وراء هذا الإعراض، وقد ذكرنا بعضها من فساد التصورات والحقد والحسد، والذى يجعل هذا العجب شديدا أن ترى هذا الإعراض مصحوبا بحركات هستيرية، كأن الداعى لهم يريد الفتك بهم، فتراهم يفرون منه يمينا وشمالا وهم فى ذعر وخوف عجيب، وهذا دليل على أن الجوانب الإنسانية التى تقدر ما يفيدها قد امتهنت فيهم، وصاروا كما وصفهم القرآن الكريم فى هذا الإعراض كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) فوصفهم بالحمر يدل على أن الإنسان الذى جعله الله فى محل التكريم قد يتدنى وينزل من دائرة التكريم إلى دائرة الحيوانية المهينة بإعراضه عن وحى ربه، إن الوحى يحمله ويرقيه ويجعله إنسانا كريما،

(١) القرطبى ١٩/ ٩٠.


الصفحة التالية
Icon