أما الطرف الثالث فى هذا الموقف فيتمثل فى جماعة من المعرضين عن وحى الله جاء وصفهم بالاستغناء وسواء كان هذا الاستغناء بالثروة والمال، أو الاستغناء عن وحى الله وتوجيهاته والإصرار على ما هم عليه من جاهلية، فإن النتيجة واحدة فى انشغالهم وإعراضهم عن وحى الله ودعوة رسوله صلّى الله عليه وسلم.
أحببت أن أقدم لأطراف الموقف التربوى هذا قبل أن أذكر الموقف بأحداثه لأبرز المعنى الذى قد يغطّى عليه فى غمرة ما قيل من أن الموقف عتاب للنبى صلّى الله عليه وسلم، وهو أن الموقف يعلى من قيمة جديدة جاء بها الإسلام فى علاقة العبد بربه سبحانه وفى علاقة الناس ببعضهم فيكون قدر الإنسان فى إيمانه وتقواه. ويبطل الموقف قيمة جاهلية فى وزن الناس بمقدار ما يملكون من مال وما ينتمون إليه من عصبية وهذه القيمة الجاهلية وقفت عقبة أمام الكثير منهم، وحرمتهم من الدخول في دين الله والنجاة به خشية أن يكون بجوار مثل هذا الأعمى فضلا عن أنها أفسدت علاقة الناس ببعضهم، وما تبع هذا الفساد من مظالم شتى ولما كان هذا متحكما فى الناس لم يكن تغييره يسيرا. بل احتاج إلى توجيهات متعددة وبأساليب متنوعة وبتطبيقات عملية من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذين معه- كما سنرى بعد قليل- ومنها هذا الموقف التربوى فى قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦).
قال المفسرون: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أمّ مكتوم- وأمّ مكتوم أمّ أبيه، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهرى من بني عامر بن لؤى- وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل ابن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال للنبى صلّى الله عليه وسلم: أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآيات، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى» ويقول: «هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة بعد ذلك مرتين «١» فى غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية

(١) انظر: تفسير الرازى ٣١/ ٥٤، والقرطبى ١٩/ ٢١١ وما بعدها، وزاد المسير ٩/ ٢٦، والطبرى ٣٠/ ٥٠، ٥١، وابن كثير ٤/ ٤٧٠، وفتح القدير ٥/ ٣٨٢، ٣٨٣.


الصفحة التالية
Icon