التربوى، فمما ذكره فى ذلك: أن يقال- مثلا-: إن ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه كان يستحق الزجر فكيف عاتب الله رسوله على أن عبس فى وجهه؟ وأما استحقاق الزجر فلوجوه أحدها: أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول صلّى الله عليه وسلم أولئك الكفار، وكان يسمع أصواتهم أيضا، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبى صلّى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبى صلّى الله عليه وسلم وإلقاء غرض نفسه فى البين قبل تمام غرض النبى صلّى الله عليه وسلم إيذاء. ثانيا: أن الأهم مقدم على المهم، وهو كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين، أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم، فإلقاء ابن أم مكتوم ذلك الكلام فى البين كالسبب فى قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل. ومما أجاب به عن هذا التساؤل: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وانكسار قلوب الفقراء؛ ولهذا كانت المعاتبة ونظيره قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: ٥٢].
ومن هذه التساؤلات: أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذونا فى أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة، وأنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء، وكيف لا يكون كذلك وهو- عليه الصلاة والسلام- إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلا فى إذن الله تعالى إياه فى تأديب أصحابه، وإذا كان ذلك مأذونا فيه، فكيف وقعت المعاتبة عليه؟ ويجيب عن هذا التساؤل أنه صلّى الله عليه وسلم كان مأذونا فى تأديب أصحابه لكن هاهنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة «١».
بهذا يتضح وضوح فكرة إعلاء القيمة الجديدة فى النظرة إلى الإنسان، ووزنه على أساس سليم عادل يقدر فيه الإنسان بما يقدمه نفسه من تقوى، وهذا الأساس يتساوى فيه الناس جميعا ويكون فيه المجال للتسابق الذى يسعد البشرية، كما يتضح إهدار الأسس الظالمة فى تقويم الإنسان بما لا حيلة له فيه من عصبية أو ذرية أو مال أو غيره من مقاييس تثير العداوة والبغضاء بين الناس.