القرآن الكريم أنزل فيها أى أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوما كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وكان ابتداء إنزاله- كما قال الشعبى- ليلة القدر. ثم تتابع نزوله بعد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منجما على ثلاثة عشر عاما تقريبا.
وهذا الوصف لهذه الليلة بالقدر، وأنها المباركة من الشهر الكريم المبارك شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: ١٨٥] يثير
انتباه الناس إلى حقيقة ما هم فيه، ولكى يدركوا حق هذا القدر عليهم أن ينظروا نظرة سريعة إلى صفحة الحياة قبل ليلة القدر، وصفحة الحياة بعدها ليقفوا على شرف ما وصلت إليه الحياة، وعلى النقلة الكبيرة التى حدثت لهم من صورة مظلمة قاتمة قبل ليلة القدر لا تبصر فيها إلا الضلال المبين فى العقيدة، والتصورات للإنسان وللكون وللحياة، وفى النفس، وفى العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى صورة مشرقة منيرة عرف الإنسان فيها ربه، واقتدى بنبيه صار فى السراء شاكرا وفى الضراء صابرا وصار للحياة متفائلا مؤملا فى رحمة الله الواسعة، صار ذا قلب تقى نقى ونفس مطمئنة يعرف حق الله فيؤديه، وحق إخوانه فيفى به، يرعى من يعول ويحسن إلى الآخرين بل ويعفو عن المسيء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
إنها صورة ترى فيها ملامح الحياة الطيبة العزيزة التى تليق بالإنسان وكرامته إذا أمعن الإنسان النظر فى الصورتين؛ صورة الجاهلية بظلماتها وضلالها وخمول الذكر فيها، وصورة ما بعد ليلة القدر التى عاش الناس فيها بالإسلام وهديه ونوره والحق الذى جاء به يدرك قيمة ليلة القدر. وزاد الله هذه الأمة خيرا بليلة القدر ونبههم إليه بقوله الكريم وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فجعل الله قيامها والعمل فيها خيرا من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر. وهذا قول قتادة واختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج «١» وهذا جبر لهذه الأمة التى تطمح فى الخير الكثير وعمرها دون طموحها، قال مالك فى الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرى أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم فى طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر «٢».
(٢) القرطبى ٢٠/ ١٣٣.