هذا تنبيه آخر إلى حقيقة يغفل عنها الإنسان الذى يلهو فى هذه الحياة ويلعب دون أن يدرى أن الشواهد عليه من نفسه وجوارحه. قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل: أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: «بصيرة» أى شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. ودليل هذا قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) [النور] وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئا. وقال مقاتل: لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك نظيره قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: ٥٢] وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) [المرسلات] «١».
ومن القضايا التى تعالجها السورة الكريمة وهى من أسس الإيمان بالدين كله قضية الاطمئنان إلى الوحى وحفظه وذكرت فى السورة فى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.
روى الترمذى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) قال: فكان يحرّك به شفتيه. وحرّك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لى ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه فى صدرك ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال:
فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السّلام قرأه النبى صلّى الله عليه وسلم كما أقرأه» خرّجه البخارى أيضا «٢» ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
(٢) القرطبى ١٩/ ١٠٦، وانظر: لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى ص ٢٢٤، ٢٢٥.