المنعم بهذا المكان يقتضى أن يكون هذا الإنسان مقدرا لحرمة هذا المكان شاكرا لأنعم الرحمن سبحانه حتى يجد مع الشكر ومع الصبر أى مع الإيمان ما يجعله يتجاوز المتاعب التى سيمر بها رغما عنه براحة القلب وطمأنينة النفس وفى هذا إشعار لهذا الإنسان الذى تكبر ونسى نفسه أنه لا حول له ولا قوة إلا بخالقه والمتفضل عليه
سبحانه ولهذا قال القرطبى رحمه الله فى وصف هذه المكابدة: قال علماؤنا أول ما يكابد قطع سرّته، ثم إذا قمط قماطا وشدّ رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذى هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلّم وصولته، والمؤدّب وسياسته والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، فى مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغمّ الدّين، ووجع السنّ وأ لم الأذن ويكابد محنا فى المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسى فيه شدّة ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقرّ به القرار إما فى الجنة، وإما فى النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودلّ هذا على أن له خالقا دبّره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره» «١».
وعلى الرغم من تجسيد هذا الوصف لما يكابده الإنسان، فإن هذا الإنسان عجيب عند ما يتصور الأمور على غير حقائقها، فيظن أن قدرته مطلقة، ولن يقدر عليه أحد ويستعمل نعمة الله فى المال مثلا فيما يغضب الله عليه. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (٦) أى كثيرا مجتمعا. عن ابن عباس قال: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت فى عداوة محمد مالا كثيرا، وهو فى ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت فى الحارث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالى فى الكفّارات والنفقات منذ دخلت فى دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.
أيظن هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه ولا يحاسبه على أعماله ومنها إهلاكه