عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا (١٦).
ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك- كيف تتقطع الأسباب بين الضالين المكذبين ومن عبدوهم من دون الله. وكيف يتبرأ هؤلاء المعبودون بالباطل من عابديهم الضالين. وأن السبب فى ضلالهم وافتراءاتهم انغماسهم فى المتع التى غمرهم الله بها ولكن بدلا من أن يشكروا ربّهم نسوا الذكر وكانوا من الهالكين. ويقع المكذبون فى العذاب ولا يستطيعون أو يستطيع أحد أن يصرفه عنهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩).
وتخاطب الآيات بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسلّية له فى مواجهة المكذبين وافتراءاتهم وبيان حكمة الله فى اختبار خلقه فالكل يبتلى والله بصير بعباده ويعلم من يظفر فى الاختبار ومن لا يوفق فيه قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠).
قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ... الآية حزن النبى صلّى الله عليه وسلم لذلك، فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السّلام:
السلام عليك يا رسول الله، الله ربّك يقرئك السلام ويقول لك: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أى يبتغون المعايش فى الدنيا «١». وأما قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ فقد نزلت فى أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل، وعقبة بن أبى معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمى، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟
فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أى اختبارا لهم.
ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا [المؤمنون: ١١١] «٢».

(١) القرطبى ١٣/ ١٢، ١٣.
(٢) القرطبى ١٣/ ١٨، ١٩.


الصفحة التالية
Icon