حياة الناس عند نزول الوحى، وكيف عنى العرب بفنّ القول، وأجادوا فيه وأنزل الله كلامه الذى أعجزهم بيانه فلم يستطيعوا الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهر فى ذلك الإنس والجن. فأسلوب المخلوق يستحيل أن يرقى إلى كلام الخالق سبحانه.
ولكنّ عدم المشابهة بين القرآن الكريم والشعر وغيره من الكلام الفصيح والبليغ لا يفهم منها محاربة القرآن الكريم للشعر والشعراء بصورة عامة بل إن إعجاز القرآن الكريم فى جانبه البيانى يكون أكثر وضوحا عند ما يعتاد الناس جيد القول نثرا وشعرا، وعند ما يفشو فيهم تذوق الكلمة، ولذلك فإن هذه السورة الكريمة التى سميت بسورة الشعراء تلفت الانتباه إلى حقيقة التفضيل فى أمر الشعر والشعراء. وأن الشعر وإن كان كلاما موزونا مقفى، فإنه لا ينبغى أن يخرج عن دائرة الضوابط الشرعية التى ترشد الكلمة، لتكون طيبة نافعة تؤتى ثمارها، فجيّد الشعر كجيد الكلام مقبول، وقبيح الشعر كقبيح الكلام مذموم ومرفوض، ويرتبط الكلام بقائله فى الحالتين شعرا ونثرا.
ولقد وجد الناس هذا المعنى فى نظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء ولا يفهم من هذا أن الإسلام ضيّق الأمر على الشعراء أو أثّر على شاعريتهم تأثيرا سلبيا كلا؛ بل إنه أطلق لهم الإبداع فى التعبير عن المعانى المستحسنة شرعا وطبعا وفى ظل ضوابطه كان إنتاج الكثير من الشعراء موافقا لتصور الإسلام للشعر والشعراء.
روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبى الصّلت شىء؟، قلت: نعم. قال:
«هيه»
فأنشدته بيتا. فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا، فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت «١». يقول القرطبىّ: وفى هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعانى المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبى صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم».
ولذلك أطلق العلماء على الشعر الأحكام الفقهية من الحل والحرمة والندب والكراهة والإباحة. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدرة إلا وقد قال

(١) القرطبى ١٣/ ١٤٥.


الصفحة التالية
Icon