الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) [الإسراء].
ويتضح لنا من هذا العرض القرآنى الكريم للتنزيل وما يتعلق به كيف كانت مسيرة الوحى لهداية العالمين فى هذا النور، وفى الطريق الأمين حتى تنزل على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم؟ وكيف هيئت النفوس لاستقبال هذا النور والانتفاع به، وجنى ثمراته فى النفس والقلب والسلوك وشئون الحياة جميعا؟ فماذا بعد ذلك من تنزلات القرآن الكريم؟
إن المتأمل فى النصوص القرآنية السابقة يرى أن نزول القرآن الكريم عبر عنه فى آيات بقول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) [القدر]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: ٣] وكذلك قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥] فيفهم من ذلك أن القرآن نزل كله فى الليلة المباركة وفى الشهر المبارك.
فإذا قرأنا قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء: ١٠٦] وكذلك قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: ٣٢] ثم واقع نزول القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلم مدة ثلاثة وعشرين عاما، دل ذلك على نزول القرآن الكريم على فترات، فكيف يكون التوجيه فى ذلك؟ إن الوقوف على تنزلات القرآن الكريم الثلاثة يبين لنا هذا.
التنزل الأول: إلى اللوح المحفوظ ودليل ذلك قوله جل شأنه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) [البروج]. واللوح المحفوظ هو السجل الجامع لكل ما قضى الله وقدّر وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين، وهذا من مظاهر قدرة الله وعظمته وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته، وهذا يبعث على الرضا ويغرس السكينة فى مواجهة ما يصيب الإنسان، قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) [الحديد].
التنزل الثانى: إلى بيت العزة فى السماء الدنيا والذى جاء فيه قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: ٣] وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) [القدر] وقوله جل شأنه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: ١٨٥]. وهذا التنزل بهذا المعنى يذهب التعارض بين النزول جملة والنزول على الرسول مفرقا، وقد جاءت الروايات بما يؤيد هذا الاتجاه فقد أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس


الصفحة التالية
Icon