ومن مظاهر الضلال المبنى على التصورات السابقة أن أموال الناس صارت تؤكل بالباطل، وأن امتصاص دماء الآخرين عن طريق التعامل بالربا صار متبعا، وأما العلاقات الاجتماعية فوجد فيها الضلال فى علاقة الزوج بزوجته حيث كانت من سقط المتاع؛ لا يعبأ برأيها زوجة ويتشاءم منها، وتنشأ بينهما طفلة، وتورث إذا مات زوجها، وامتهنت كرامتها فيما شاع من سفاح وفاحشة.
هذه صورة موجزة لحالة الأمة قبل البعثة والتى وصفت بالضلال المبين مرة ووصفت بالجاهلية أخرى، ووصفت بالظلمات مرة، وبالموت والخمول أخرى. فكيف يعمل الوحى عمله فى هذه الضلالات المتراكمة والمترابطة؟ هل يجدى أن ينزل الوحى جملة واحدة ليعالج مثل هذه الحالات المتشابكة؟ أم أن ينزل على فترات ليأخذ بيد الناس أخذا رفيقا يرتب فيه الأهم فالمهم، ويقدم العلاج الذى يجتث هذه الأمراض المتمكنة؟ وإن كنا سنتناول ذلك تفصيلا فيما يتعلق بوجه المنهج إلا أننا نركز هنا أن النزول مفرقا كان لا بدّ منه لمواجهة هذه الحالات المتشعبة والضاربة فى كل اتجاه. فإذا أضفنا إلى ذلك حالة الأمة فى كونها أمة أمية وأن عدد الكتاب والقراء فى بداية الوحى كان قليلا، أدركنا الحكمة من نزول القرآن الكريم مفرقا ليقرأه الرسول على الناس على مكث وليرتله ترتيلا يسهل معه حفظه وفهمه والعمل به.
وإذا كانت تصورات الناس فى الرسل أن يكونوا ملائكة، وأن هذا جعل بعضهم يستبعد أن يرسل الله بشرا رسولا. ونظر بعضهم بالمقاييس السابقة فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) [الزخرف] ويقصدون بالعظمة هنا عظمة المال والجاه. كان لا بدّ فى مواجهة هذه التصورات الفاسدة نحو النبوة أن يظل اتصال جبريل برسول الله صلّى الله عليه وسلم مستمرا، وعلى فترات طويلة؛ حتى يتأكد لهم الدليل بعد الدليل على نبوته ورسالته، وحتى تؤتى المعجزة ثمارها فى قلوب هؤلاء.
وحالة الناس هذه على قدر شدة ضلالها وشدة ظلماتها وخمولها تحتاج إلى زمن وجهد متواصل فى نقلهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الموت والخمول إلى الحياة الطيبة النقية: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) [الإسراء].
ومما يتصل بحالة الأمة كذلك أن من آمن منها تعرض لتحديات فى حاجة إلى تثبيت مستمر كذلك، وتسليحهم بالصبر وتوجيههم إلى سبيل المواجهة الصحيحة، ومنحهم