أمامنا مبدأ آخر، وهو: وجوب معرفة الرب الخالق- سبحانه وتعالى- وهذه المعرفة من أول الواجبات، ومن أهمها وقد بدأ بها القرآن الكريم مع الناس بداية تتلاءم مع ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، فالحكيم- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يبعثه رسولا إلى المشركين لو قال له: اقرأ باسم ربك الذى لا شريك له لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم لذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به، فكأن الحق سبحانه يقول: إن هؤلاء عباد الأوثان فاذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل: ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فهذا التدريج مقرون بأنى أنا المستحق للثناء دون الأوثان، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: ٨٧] فإذا أيقنوا بذلك وصلوا إلى التفريق بين من يخلق ومن لا يخلق أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] ووصولا بذلك إلى الإذعان لأمره ونهيه، وحققوا فى أنفسهم توحيد الألوهية مع توحيد الربوبية.
وفى ذكر الخلق من علق غير مشاهد للإنسان وقت نزول الوحى وأصبح اليوم معلوما مشاهدا بالأدوات الطبية والمناظير وأصبحت أطوار خلق الإنسان التى حكى عنها القرآن الكريم تفصيلا معروفة، دليل واضح على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تبليغه لكلام ربه الذى لا يعلم الغيب إلا هو ولا خالق سواه، وعلى ذلك يكون الترتيب كما سبق «اقرأ» فالقراءة مفتاح العلم، وإذا كان العلم دليل العمل والعمل باسم الله الرب الخالق الرازق الكريم، وأول ما ينبغى أن يعلم ويعرف توحيد الله توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ثم يأتى التكرار المؤكد لما سبق الذى يقدم مع التأكيد مزيدا من المعانى فيقول تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) [العلق].
ويوجه بعض العلماء هذا الأمر بالقراءة مع الأمر السابق أن الأول لنفسه والثانى للتبليغ. أو الأول للتعلم من جبريل والثانى للتعليم. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فمن كرمه تعالى أن خلق ورزق، وربّى ومنح خلقه بلا عوض، وهذا هو معنى الكريم، فالكرم إفادة ما يبتغى بلا عوض وهو سبحانه أكرم، وفى بيان وجوه بعض أكرميته يقول بعض العلماء: إنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكن لا يبقى إحسانه على الوجه الذى كان قبل الجناية وهو تعالى أكرم، لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية، ومنه قول القائل:
متى زدت تقصيرا تزد لى تفضلا | كأنى بالتقصير أستوجب الفضلا |