الوادى ناديا فأنزل الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) [العلق] قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق، فلا يليق به التكبر فهو عند ذلك ازداد طغيانا وتعززا بما له ورئاسته فى مكة، ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم منى، ولعله- لعنه الله- قال ذلك ردا لقوله تعالى:
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) وعلى ذلك نقول: إن المناسبة بين الآيات قائمة وخاصة عند من يقول: بأن المراد من الإنسان المذكور فى هذه الآية جملة الإنسان، فبين الله تعالى أنه خلقه من علقة، وأنعم عليه بالنعم التى قدمنا ذكرها؛ إذ أغناه، وزاد فى النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد فى المعاصى واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة هكذا يستمر السياق إلا أن القول الأول أظهر بحسب الروايات وهذا ما يجعلنا نقول: أن هذا يقتضى أن يكون الرسول الكريم قد صدع بأمر ربه، وعرف المؤمنون به والمعارضون له والواقفون فى طريق دعوته، والذين تمادوا بعد ذلك فى المبالغة والتجاوز فى إيذائه وتعذيب أصحابه، وعلى ذلك يكون نزول هذه الآيات الكريمة بعد فترة زمنية ليست بالقصيرة، نزلت فيها آيات أخرى سنتناولها- إن شاء الله- فى مكانها، وقد عرفت هذه الفترة بالفترة السرية والتى انتهت بصعود النبى صلّى الله عليه وسلم على جبل الصفا وندائه على بطون قريش وإعلانه لهم بأنه رسول الله إليهم، وأنه نذير لهم بين يدى عذاب شديد، ومن يومها كانت الشرارة الأولى فى التحديات، والتى أطلقها عمه أبو لهب قائلا: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ومن هذه الساعة أخذت الفتنة البدنية والمالية طريقها وشملت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن هذه الفتنة التى لحقت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضع القاذورات والنجاسات عليه وهو ساجد، وكذلك وضع الشوك فى طريقه كما كانت تصنع امرأة أبى لهب وابنتها، بالتدبير لقتله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) [الأنفال]، وكانت هذه المحاولات لصرف الرسول عن دعوته وتخويف الناس حتى لا يؤمنوا به ومحاولة التأثير على من آمن به للعودة إلى الكفر.
ولذلك تجد الآيات من سورة العلق تذكر مثل هذه التصرفات الطائشة من المشركين الذين وقفوا فى طريق الدعوة؛ لتردعهم ولتزجر غيرهم؛ ولتعلمهم أنهم بقوتهم
ضعفاء أمام قوة الله وقدرته، وأن الله سينصر رسوله ويعلى كلمته ولو كره المشركون. قال تعالى: (كلا) وجاء فى معناها أنها للردع والزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، والكلام يدل عليه وإن لم يذكروا الوجه الثانى- وقال به مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان أن الله


الصفحة التالية
Icon