وأهمية المفردة المجسّمة.
ويمكن أن نقول إن جمال «أفرغ» يكمن في تشبيه النفوس بالأوعية الفارغة الظامئة إلى الصبر الذي يسكب برويّة ليس فيها قوّة الصّبّ، وكذلك تجسّم كلمة «منقلبون» في قوة حركتها سرعة الانقلاب، واتجاه السّحرة إلى الخالق اتجاها كاملا يعبّر عنه الانقلاب، وليس فيه ذبذبة.
وإذا كنا نجد الدارسين يتبعون الرماني، كما رأينا، فقد جنحوا إلى كثير من التعمّق الفني، وهذا التعمق يزداد فاعلية في القرنين الرابع والخامس خاصة، قبل أن نصل إلى فترة التقسيمات والتقعيد البلاغي.
ومن الشواهد التي يتفرّد بتذوقها أبو هلال العسكري قوله تعالى:
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ «١»، فهو يقول: «حقيقته لنعذّبنّهم، والاستعارة أبلغ، لأن حسّ الذائق أقوى لإدراك ما يذوقه، وللذوق فضل على غيره من الحواس، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى شيئا لم يعرفه شمّه، فإن عرفه، وإلا فذاقه لما يعلم أن للذوق فضلا في تبيين الأشياء» «٢».
وهكذا يقترب أبو هلال من مفهوم التأثير الأكبر في قرب المباشرة، ولقد ورد فعل الذوق في القرآن ثلاثا وستين مرة. معظمها في مجال الوعيد، ولم يذكر إلا في نطاق الاستعارة، أي لم يستخدم على وجه الحقيقة إلا في قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما «٣» في الحديث عن آدم عليه الصلاة والسلام وزوجته، ولم يذكر الذوق في بسط جمال الجنة، والتلذّذ بمباهجها وشرابها وطعامها، مما يدلّ على أنه خصص للكافرين والعاصين والجبابرة، وهو يدل على مرتبة بهيمية، هي شأن أهل النار الذي يطعمون من العذاب لتملأ البطون.
والذوق حاسّة دنيا إلى جانب اللمس والشم من حواسّ الإنسان، أما الحواس العليا فهما السمع والبصر، إلا أن الكلمة تجسّم للبصر معاناتهم

(١) سورة السّجدة، الآية: ٢١.
(٢) أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، ص/ ٢٧٥.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ٢٢.


الصفحة التالية
Icon