للعذاب، وحسّية التذوق تبعث على التهويل، فكان حقيقا بأن تقرن بعذاب الآخرة، وفيها أقصى المباشرة في التّلقي، وقد وردت أيضا في تذوق الرحمة، كما وردت في تذوق الوبال والبأس والعذاب إذ تبعث في الذهن صورة النار تأكل الأحشاء بعد أن تصل إلى اللسان.
وفي القرن الرابع يطالعنا الشريف الرّضي بكتابه «تلخيص البيان في مجازات القرآن»، وإذا كان قد كرّر شواهد سابقيه، فهذا طبيعي إذا نظرنا إلى محتوى الكتاب كلّه، بيد أننا لا نعدم تذوقا فنيا لفن التجسيم، يقول تعالى:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «١». يقول الشريف الرضي: «وهذه استعارة، والمراد بها صفة لشمول الذّلّة، وإحاطة المسكنة بهم كالخباء المضروب على أهله» «٢».
ونحن نلمس جمالية التجسيم في مصطلح الاستعارة، ومما يحمد له في هذا المقام إلقاء الضوء على أهمية المفردة المستعارة من حيث الأثر النفسي المخزون فيها، فالذّلّة والمسكنة مشاعر، وتجسيمها بفعل الضرب يوحي بظهورها للعيان وكأنها خيمة تضرب عليهم، والكلمة توحي بالعنف المناسب، وكأن الذلة والمسكنة أداة يضرب بها هؤلاء اليهود ضربا.
وكذلك عند وقوفه على الآية الكريمة: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «٣» إذ يقول الشريف الرضي: «ألقى الرعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته تشبيها بقذفه الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه» «٤».
فهو يقترب من إيحاء أثر المفاجأة في اختيار هذا الفعل الذي يجسّم الإحساس بالرعب، وهو- كما نرى- لا يغنى بتفصيلات عن نوع الاستعارة بقدر ما يلمح إلى ظلال القذف الذي يهزّ قلوب المشركين، وقد أدرك مدلول

(١) سورة البقرة، الآية: ٦١.
(٢) الشريف الرضي، محمد بن حسين، ١٩٥٥، تلخيص البيان في مجازات القرآن، تح: محمد عبد النبي حسن، ط/ ١، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ص/ ١١٥.
(٣) سورة الأحزاب، الآية: ٢٦.
(٤) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ ٢٦٤.


الصفحة التالية
Icon