في نفسه، كما حدث في تفسيره لقوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «١»، يقول: «وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيّلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار- ألم تر-» «٢».
إنه يخصّ استعراض المشهد وتجسيمه بهاتين الكلمتين، وما وقع عليه يمكن أن نلقي فيه ضوءا آخر، من حيث النظم، إذ ينتفي النّفي بوجود الاستفهام بالهمزة مع حرف النّفي، ليفيد غاية القوة في الإثبات، ثم يأتي اختيار فعل «تر» المعبّر عن الرؤية، ليؤكّد صدق الخبر الذي يرويه الخالق، لأن البصر أكثر برهانا من الخبر، فلم يذكر البيان القرآني تعبير «ألم تسمع» أو «ألم تخبر» أو غير هذا، وفعل الرؤية يطرد في كل الأخبار التي يرويها الخالق لنبيّه الكريم، مثل أخبار عاد وثمود وفرعون والطير الأبابيل، ففي الفعل رسم لمشهد من غيب الزمن الماضي.
ومن دواعي النّصفة القول بأنه لم ينفرد بالوهم والمبالغة، وأنه استوفى القرآن كله، كما صنع الزمخشري، وهذا الشمول لدى قطب لم يمنع من إهماله لبعض المفردات المجسّمة عند ما يشغل بالرواية وبالجانب الفكري، ونحن نجد في كتبه الثلاثة الجدّة والأصالة، فإذا قرأنا كتب معاصريه توالت الإحالات إلى بدوي، ومن القدامى الزمخشري وابن الأثير خاصّة، وممن دار في فلك بدوي الدكتور بكري الشيخ أمين، وحفني محمد شرف، وعدنان زرزور، وغيرهم كثير.
لذلك نقف على ما هو غير مكرّر، يقول بدوي الذي اتسمت دراسته بالعمق: و «لهذا الميل القرآني إلى ناحية التصوير نراه يعبّر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات مما أفرد له البيانيون علما خاصا به دعوه علم البيان، وحسبي الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس ذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكّنا من النفس،

(١) سورة البقرة، الآية: ٢٤٣.
(٢) قطب، سيد، في ظلال القرآن، مج/ ١: ٢/ ٢٦٥.


الصفحة التالية
Icon