ومن هذا القبيل تملّيهم جمال الآية الكريمة: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «١»، فنحن نفهم أهمية كلمة «يدمغه» في سياق كلام الشريف الرضي الذي قال: «الدّمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثّقال، وعن طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه» «٢».
وتتسم كلمة «يدمغه» بالاختزان نتيجة اشتقاقها من عبارة «ضربة على دماغه»، وكذلك يعطي الزمخشري الأهمية الكبرى للمفردة المشخّصة، وبشكل أوضح في تفسيره للآية: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ «٣» إذ يقول: «كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم، وذوق صحيح إلا لذلك وإلا فإنّ قراءة معاوية بن قرّة: «ولمّا سكن الغضب» لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزّة، وطرفا من تلك الرّوعة» «٤».
وهو يفصح عن هذه الإضاءة التي تلقيها المفردة المنقولة، وذلك من خلال ذوقه الشّخصي، مضافة إليه معرفته بالقراءات، وقراءة معاوية على أية حال مخالفة لرسم المصحف ولا ثبوت لها.
وإذا ما تقدم الزمن، ووصلنا إلى أمثال ابن قيم الجوزية والزركشي والسيوطي، فلا يعدو الأمر استعارة معقول لمحسوس أو مجازا، لأن هؤلاء لم يتخصصوا في البيان الأدبي، إنما ألّفوا كتبا جمعوا فيها ممن سبقهم، لذلك يكتفى في كتبهم بتبيين أطراف الاستعارة «٥»، ولا نجد ظلالا نفسية كالتي وجدناها عند سابقيهم.

(١) سورة الأنبياء، الآية: ١٨.
(٢) الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص/ ٢٢٨.
(٣) سورة الأعراف، الآية: ١٥٤.
(٤) الزمخشري، الكشاف: ٢/ ١٢٠.
(٥) انظر ابن قيم الجوزية، الفوائد ص/ ٤٨، والزركشي، البرهان: ٣/ ٤٨٩، والسيوطي، الإتقان: ٢/ ٧٠.


الصفحة التالية
Icon