وإذا كان الجاحظ يكتفي بالحديث عن الجميل الموضوعي والمعنوي الأخلاقي فإن أبا حيّان التوحيدي «١» يركّز على الجمال المعنوي، ويضع العقل معيارا لفهمه، ويبسط القول على صفات الله قائلا: «وهي من الحسن في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات، لأنها هي سبب كل حسن، وهي التي تفيض بالحسن على غيرها «٢».
فالخالق عزّ وجلّ هو الجميل المطلق، وهو خالق الجمال النسبي في الكون، فصفات الله هي أصل الحسن في المخلوقات، وأبو حيان يتحدث عن الجميل المعنوي، ويربطه بالخير، ويجعل العقل وحده معيارا في تذوقه واستيعابه، يقول: «إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئا من الأشياء إلا بقرائن وشرائط، وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، إن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم لما فيه من حياة الناس، وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحا لما فيه من تلف الحيوان» «٣».
فالفعل لا يتّصف بالجمال أو القبح، حتى يتضح أثره وفائدته، أو ضرره في المجتمع، أو دلالة الشّرع، وهذا ما رامه بقوله: شرائط وقرائن، وبما أن الجميل هنا معنوي، فتناسب ربطه بالخير، على حين ربط الجاحظ الجميل الحسي بالمنفعة.
ومعيار العقل مستمر في حكمه لا يتغير بتغير الأحوال، فهو يقول:
«ما يستحسنه العقل، فهو أبدى الاستحسان له، وما يستقبحه، فهو أبدى الاستقباح له، ولا يتغير ذلك بتغير الأحوال» «٤».

(١) هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي المتوفى سنة ٤٠٠ هـ، فيلسوف متصوف معتزلي، أحرق كتبه في آخر حياته، ومن كتبه «المقابسات» و «الإمتاع والمؤانسة» و «الصداقة والصديق» و «الهوامل
والشوامل»
اتّهم في دينه، انظر الأعلام:
٥/ ١٤٤.
(٢) التوحيدي، أبو حيان، ١٩٥٢، الهوامل والشوامل، تح: أحمد أمين وأحمد صقر ط/ ١، لجنة التأليف والنشر والترجمة»، القاهرة، ص: ٤٣.
(٣) المصدر السابق، ص: ١٤٧.
(٤) المصدر السابق، ص: ٣١٦.


الصفحة التالية
Icon