فليس من القبح أن نقرأ في البيان القرآني الأعلى مثل: «نريك، نرى، لنريه، نريهم» وكلا الحرفين بين الشّدة والرخاوة، فكثيرا ما ينفرد الراء ذلك الحرف المتكرر، فيصبح قويا عنيفا، وكذلك النّون، إلا أن النّسق الموسيقى في المفردات السابقة بوساطة الحركات يجعل للسمع وفي النطق لذة، يقول عزّ وجلّ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا «١»، وقوله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً «٢»، والشواهد كثيرة.
إضافة إلى إشارتنا إلى أن المعوّل عليه طبيعة النّغمة الصوتية للحرف نفسه، فتفسير الأمر من جهة عضوية محضة لا يكون محقّا في تفسير الحالة الخارجية للصوت بعد خروجه من أعضاء النطق.
ولهذا يتبيّن لنا أنّ أساس الانسجام هو في صفات الحروف، إذ تنقسم إلى صفات كثيرة مثل: شديدة ورخوة، ومجهورة ومهموسة، وحروف صفير واستعلاء وقلقلة وغيرها «٣».
ويمكن أن نعطي للتنافر المنبوذ بعدا آخر غير عدم الانسجام، وهذا البعد يتمثّل في الجهد العضلي لجهاز النّطق عند لفظ أصوات بعينها متقاربة، ولا يحصل هذا في كلّ مقام، ولا يطّرد في كل كلمة، وفي هذا الصّدد يقول عبد المجيد ناجي: «يمكن تفسير تنافر حروف بعض الألفاظ، والإحساس بثقلها على اللسان، ونفور النفس منها، خصوصا إذا كانت متقاربة المخارج، بأن النّطق بحروف متقاربة المخارج، يعني الإلحاح على مجموعة معيّنة من العضلات دون سواها، لإخراج أصوات اللفظة المطلوبة،
وهذا يؤدي إلى إحساسها بالتّعب «٤»
.
وإذا كان هذا لا يحصل في كل تقارب، فإنّنا نستطيع القول إن النقد الحديث يعترف بشكل جزئي بنظرة ابن سنان، إلا أنّه يقدّم مقياس الذوق

(١) سورة الإسراء، الآية: ١٧.
(٢) سورة المعارج، الآية: ٧.
(٣) انظر ابن عبد الفتاح، قواعد التجويد، ص/ ٤١، وابن جني، سرّ صناعة الإعراب:
١/ ٥٦.
(٤) ناجي، مجيد عبد الحميد، الأسس النفسية للبلاغة، ص/ ٥٢.


الصفحة التالية
Icon