الحميدة.
لقد تحدّث علماؤنا بوضوح عن المفاهيم الجمالية خلافا لتعقيد الفلاسفة الغربيين وتناقضهم أحيانا، كما نجد هذا في الجمال عند هيغل ومسألة المطلق والروح وأمثال هذه المصطلحات الغامضة، أو تعلق الجمال بالحدس كما هي الحال عند كروتشه.
وقد ذكروا أمثلة من الواقع الملموس تثبت صحة نظرهم، ونخلص مما سلف إلى أن الجميل الموضوعي يعتمد على جزئيات هذا الجميل، وهذا يقترب من مفهوم الجميل في البحث، إذ يعتمد على حاستي البصر والسمع إضافة إلى القلب، وهذا ما تتفق فيه الدراسات الجمالية كلّها.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن اقتران الحب بالجمال في الفلسفة اليونانية لا يمتّ بصلة إلى ما جاء عند الغزالي، لأن الغاية عنده دينية، ليس فيها التجريد الفلسفي وما سمي بالمثل، كما أن حديث المسلمين عن الجمال البصري يتحدّد في الأشكال، وفي الصور المرئية، وليس فيه ترّهات الغرب، وتجسيد المثل أو الفكرة المطلقة، وما يتبع هذا من خطل وتعقيد، وكذلك لا نحب أن نربط بين ما ذكره التوحيديّ والغزالي عن فيض الجمال على المخلوقات بما جاء في نظرية الفيض عند أفلوطين، فنظرة علمائنا تتّسم بالأصالة، لأنها تنبع من أصول العقيدة الإسلامية.
وإذا كانت المذوقات والمشمومات والملموسات أدخل في الالتذاذ الجسدي من المرئيات والسمعيات، فإن الجمال القرآني يثير هذه الأحاسيس أيضا، لأنه فن قولي يتمتّع بطابع زماني لاعتماده الكلمة والنسق الموسيقى، ومكاني بمشاهده المؤثرة في المشاعر، ولأجل الإيغال في التأثير الحسي يحرك كلّ الحواس، حتى إن سماع بعض الكلمات يشبه الإدراك المرئي، فيتخذ بعدا مكانيا.
والجمال القرآني متكامل من حيث الانسجام بين الشكل والمضمون فيه، وهو لا يقدّم شكلا فارغا، بل إن ما فيه مسخّر في نهاية الأمر لرفع مستوى الوعي الجمالي، ومن ثمّ لتحقيق الهداية، ومن يقرأ آياته يدرك أن الشكل


الصفحة التالية
Icon