لأنه أرقى من سائر التصرّفات البشرية.
ولو أنهم ردّوا جمالية كلمة «ليستخلفنّهم» إلى أمر التوكيد باللام والنون، وسمة الهيمنة النابعة من الضّغط على السين والخاء لكان أجدى، وكذلك فإن هناك وقوفا على حرف شديد، وهو الميم، وكذلك زيادة التوكيد الدالّ على التعجرف والثّقة العمياء بالنّفس في صيغة كلمة «لأصلّبنّكم»، والتوكيد باللام ونون التوكيد معا.
لقد فسّرنا ضآلة عدد الدارسين القدامى في هذا المجال بظهور التعلّق الشّكلي، وضعف الحجّة، وهذا ينطبق على الدراسات الأدبية الحديثة للقرآن، فلم يذكر طول الكلمات إلا الرّافعي، وهو لا يسفّه رأي سابقيه، ولا يدلّل على عدم جدوى هذا البحث، بل يقدّم تبريرا آخر لم ينتبه إليه السابقون.
وكأنّ سكوت القدامى عن الدلائل المضمونية لطول الكلمات جعل مفتاحا لنظرة الرافعي الصوتية إلى هذا الأمر، إلّا أنّ هذه النظرة لا تتّسم بالغموض وإطلاق عبارات مثل الخفّة والرّشاقة، وإن كانت واضحة الدّلالة لدى معاصريهم، بل تتّسم بموضوعية واضحة جليّة المعالم.
يقول الرافعي: «وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلا بطبيعة وضعه أو تركيبه... إذ تراه قد هيّأ لها أسبابا عجيبة من تكرار الحروف وتنوّع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: «ليستخلفنّهم في الأرض» «١»، فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوّع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنّها بذلك صارت في النّطق كأنّها أربع كلمات، إذ تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «٢»، فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها الياء والكاف، وتوسّط بين الكافين هذا المدّ الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها» «٣».
(٢) سورة البقرة، الآية: ١٣٧.
(٣) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ ٢٢٩.