ونجد في كتاب ابن أبي الإصبع ما يعدّ مسايرة لأحكام الدارسين قبله، فقد استمرت ألفاظ مثل «فصيح وجزل ورقيق وعذب»، وغيرها مما يدلّ على التعميم والإجمال، يقول عن الفرق بين الجزالة والفصاحة في كتابه «بديع القرآن»: ومنها قوله تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ «١»، وقوله سبحانه:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا «٢»، فألفاظ هذه الجملة كلّها من هذا الباب، وأجزلها قوله تعالى: «اسْتَيْأَسُوا» وأفصحها قوله سبحانه: «خَلَصُوا نَجِيًّا»، وقلّ أن تجتمع الفصاحة والبلاغة في جملة من هذا الباب إلا في هذه الجملة» «٣».
وكأنما يخلو القرآن من أمثال هذه المفردات، وكأنما أحصاها، فاستوفى السور كلّها، ومن ثمّ أطلق حكمه هذا الذي يعدّ أشدّ تعميما من حكم أسلافه، وما هي إلا إشارة عابرة كانت له في كتابه.
- الخفّة عند البارزي:
ينقل السيوطي في «إتقانه» ما ورد في أوّل كتاب «أنوار التحصيل في أسرار التنزيل»، ونقع في هذا الاقتباس على ما يدل على تدبّر عميق لماهية الصّوت، وذلك من خلال ذكر مفردات مرادفة مما يبيّن لنا مظاهر الخفّة في المفردة، إذ يقول البارزي: «اعلم أنّ المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ «٤» أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة، ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ «٥» أحسن من لا شكّ فيه، لثقل الإدغام، ولهذا كثر الرّيب، ومنها وَلا تَهِنُوا «٦» أحسن من ولا تضعفوا لخفّته، ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي «٧» أحسن من ضعف، لأن الفتحة أخفّ من

(١) سورة يوسف، الآية: ٥١.
(٢) سورة يوسف، الآية: ٨٠، نجيّا: يناجي بعضهم بعضا.
(٣) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ ٢٨٧.
(٤) سورة العنكبوت: الآية: ٤٨.
(٥) سورة البقرة، الآية: ٢.
(٦) سورة آل عمران، الآية: ١٣٩.
(٧) سورة مريم، الآية: ٤.


الصفحة التالية
Icon