في بيان جوانب بلاغة القرآن من حيث الصورة الفنية، ومناسبة الكلمات للمقام، وإن كان الجمال الصوتي غير بعيد عن ذوقهم، إذ عبّروا عنه بالفصاحة والعذوبة والخفّة وغير هذا.
ولا يحتكم الرافعي إلى العاطفة الدينية أو مجرّد الذوق، إنّما جمال الحركات عنده يظلّ موضوعيا لا علاقة له بتفاوت الذوق الذاتي لدى المتلقّين، فالسّبب كائن في نظم القرآن نفسه، ويتجلّى أمام كلّ نظر دقيق، يقول عن تلاؤم الصوت والحركة: «حتى إنّ الحركة ربّما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثّقل أيها كان، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا...
من ذلك لفظة «النّذر»
جمع نذير، فإنّ الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذّال معا، فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوّه في اللّسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكلّ ذلك مما يكشف عنه، ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ «١»، فتأمّل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوّق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حسّ السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد» وفي الطّاء من «بطشتنا»، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطّاء إلى واو «تماروا» مع الفصل بالمدّ، كأنّها تثقيل لخفّة التّتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضّمة مستخفا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها، كما تكون الحموض في الأطعمة، ثم ردّد نظرك في الراء من «تماروا» فإنّها ما جاءت إلا مساندة الراء «النّذر»، حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجفّ عليه، ولا تغلظ، ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون «أنذرهم» وفي ميمها، وللغنّة الأخرى التي سبقت الذّال في «النّذر» «٢» فالأمر كما نرى يخرج من المفردة ذاتها، ليكون توازنا وتكاملا مع طبيعة الحركات في المفردات السابقة لها، وقد أعجب الباحثون بتحليله، ونقلوه كما نقلناه على طوله من غير أن يضيفوا على اقتباسهم إلا

(١) سورة القمر، الآية: ٣٦، تماروا: تجادلوا وكذّبوا.
(٢) الرافعي، مصطفى صادق، إعجاز القرآن، ص/ ٢٢٧ - ٢٢٨.


الصفحة التالية
Icon