لا تقف المفردة الأدبية في حياد المعجم، فإن غزت موضوعها واستوعبته تملّكته، فكانت آية في الجمال، وإن خسرت معركتها اقتربت من الفوضى والهذيان، وصارت إلى زوال وابتذال، يقول بختين في هذا الصّدد: «الكلمة في الفكر الأسلوبي التقليدي لا تعرف إلا ذاتها أي سياقها هي، وموضوعها هي، وتعبيريتها المباشرة ولغتها الواحدة الوحيدة، أما الكلمة الأخرى الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها إلا بوصفها كلمة محايدة من كلمات اللغة، إلا كلمة لا تخصّ أحدا، إلا مجرد إمكانية كلامية» «١».
ولعل هذه المعجمية هي التي نفّرت الدارسين- ولا سيّما القدامى منهم- من استقلال المفردة بالجمال، وحقّها بالمقام الرفيع، لأنها في نظر بعضهم موجودة في الصفات نفسها قبل أن يشملها التشكيل اللغوي، وترعاها الفنون من هنا وهناك، وفي هذا تقصير، لأن المفردة أثبتت جدارتها في حاجة التشكيل إلى مادة بعينها، وليس إلى غيرها من ذلك الرّصيد الواسع في نطاق المعجم، ليكمل التشكيل بناءه الجمالي.
وهذا هو الفرق بين الكتابة العلمية والكتابة الأدبية، فالأولى لا تهتمّ بالانتقاء، لأنها لا تعنى بالاعتبارات الوجدانية، فتقلع عن جمال النحو بعلائقه المؤثرة، كما تقلع عن جمال الصرف الذي يعطي الصيغة الفاعلية الجمالية، وتتجاهل الفروق الدقيقة بين المفردات، كل ذلك لأنها كتابة مباشرة لا تخاطب الشعور، والمفردة في مضمارها إن هي إلا وسيلة لمخاطبة العقل مباشرة.
أما الكتابة الأدبية فهي بناء لغوي جميل، والأديب يرى أن المفردة كائن حي ودلالة حيوية، تقوم بوظيفة نقل المشاعر في صيغ مغايرة للاستعمال المعهود، ولا تنتهي غايته عند صياغة الفكرة فقط، بل عند بثّ الروح في حنايا الكلمات، فتغدو بدائل عنه، وهذه المعايشة بين المفردة والمبدع تحتاج إلى وقفة ذوقية لأجل عملية الانتقاء، لأن الكلمة سترسم صاحبها بملامح جسدية، وملامح ذهنية في سجلّ خيالي، وهذا ما يحوجه إلى التأمل في المفردة قبل

(١) بختين، ميخائيل، ١٩٨٨، الكلمة في الرواية، ط/ ١، تر: يوسف حلاق، وزارة الثقافة، دمشق، ص ٢٩.


الصفحة التالية
Icon