وهو يرى أن السّتر واحد من أسباب هذه الكنايات، ويبدو في كلامه أثر العصر جليا، لكنه يقدم تعريفا وافيا هو بمنزلة تنظير فني، ويتجلى هذا الأثر في ذكر مصطلحات مثل الإلغاز والتعمية التي طالما أولع بها علماء عصره، لذلك نجده يفسّر هذه الجمالية من خلال صيغة التبويب والاقتضاب ونقرأ شواهد متوالية من غير تعليق أحيانا، وكأن الهدف تعليمي محض.
ومن المواضع التي أحسن فيها ودقّق النظر ما جاء حول الآية:
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «١»، إذ يقول: «الرّكون إلى الظلم دون فعل الظّالم نفسه، ومسّ النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب» «٢».
وهو ينطلق من خلال الحسّ اللغوي بالفروق، فمقتضى الحال يتطلّب المسّ، لأن المخاطبين مؤمنون، وقرين هذا قوله عزّ وجلّ في سورة الأنفال:
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «٣»، وذلك لقبول الصّحابة بفداء الأسرى، وتخصّص مفردات الإحراق التام والصديد، والنار في البطون، والمقامع، والملائكة الغلاظ للكافرين والمجرمين، فالمسّ يدلّ على الملاطفة في التنبيه، ويعدّ ما ذكره ابن أبي الإصبع بادرة فنية تستند إلى مقياس العدل في العقاب.
- مع المحدثين:
لقد دعا القرآن إلى تطهير الجسد، كما دعا إلى تطهير الروح من درن الدنيا وخبائثها، يقول تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «٤»، فكلمة «رجس» تنم على إبعاد المؤمن عن أخلاقية دنيئة منشؤها معاقرة الخمر، واتباع الأصنام، ولعب القمار، وهذه الكلمة من المفردات التي لم يذكرها القدامى.

(١) سورة هود، الآية: ١١٣.
(٢) ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ ٤١٨.
(٣) سورة الأنفال، الآية: ٦٨.
(٤) سورة المائدة، الآية: ٩٠.


الصفحة التالية
Icon