اختزان التّهذيب، فهناك الكثير من المفردات دلّ عمومها على ملاطفة وحسن خطاب، ومن ذلك إطلاق كلمة «الناس» على المنافقين في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «١»، وهي أكثر ما وردت في سورة البقرة، ونجد أنها مرة تعني الكفار، ومرة تعني المنافقين، ومرة تعني اليهود، ومرة تعني بني آدم جميعا، وهي تفيد عموم الرسالة السماوية، فلا عصبية ولا قبلية ولا جنس أو عرق، إلا أنّ عمومها في الحديث عن المنافقين يدلّ على ملاطفة الخالق لهم، واستجلاب قلوبهم، وفي هذا يقول بدوي: «ألا ترى في اختيار كلمة «الناس» وعمومها عدم مجابهة المنافقين بتعيينهم، وفي ذلك ستر عليهم، وإغراء لهم بالإقلاع عن نفاقهم، ذلك أنهم ما داموا لم يعيّنوا من المتوقع أن يصغوا للقرآن» «٢».
لقد كان في الإمكان ذكر أسماء شخصيات من اليهود والمسلمين الذين كانوا يظهرون الحقّ ويخفون الباطل، ومثل هذا في قوله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «٣» فالكلمة تشير إلى رءوس النفاق ذوي الكلام المعسّل والضمائر الحاقدة، وقوله عز وجل: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ «٤»، فهي تعني المشركين الذين يعرفون ملّة إبراهيم عليه السلام، واليهود الذين قرءوا في التوراة عن قبلة النبي الجديد، وفي هذا غاية الأدب من حيث لا يهان من كان على الدين، ويستّر على أخطائهم، ومثل هذا يقع عند الزركشي والسيوطي تحت عنوان «المبهمات» «٥»، فقد ذكرا أسماء من نزلت فيهم مثل هذه الآيات.
وقد تواتر هذا في الدراسات الإسلامية في عصرنا، فكثيرا ما يعبّر الباحث في الفكر الإسلامي عن المتطرفين في الدّين، أو عن أصحاب الفكر المعارض للإسلام، وكل من يعادي الإسلام بكلمة «الناس»، وهذا يدلّ على تأدب، ويلحق به أيضا عدم ذكر اسم الشخص الذي ينال من الإسلام أو يغالي فيه.

(١) سورة البقرة، الآية: ٨.
(٢) بدوي، د. أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ ٢٨.
(٣) سورة البقرة، الآية: ٢٠٤.
(٤) سورة البقرة، الآية: ١٥٠.
(٥) انظر الزركشي، البرهان: ١/ ٢٠١، والسيوطي، الإتقان: ٢/ ٣١٤.


الصفحة التالية
Icon