وفي سورة يوسف نقرأ قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «١»، وكلمة «متّكأ» تعني للوهلة الأولى تلك النّمارق المعدّة للجلوس، ولكنها بعد التمحيص تتكشّف عن ترفّع محقّ لتصوير انبساطهن، وكيفية الجلوس، والحديث الفكه مع الراحة، وهذه الكلمة أبعدتنا عن جوّ الجوع والطّعام، وفي هذا يقول البوطي: «لم يعبّر عن ذلك بالطعام، فهذه إنما تصور شهوة الجوع، وتنقل بالفكر إلى «المطبخ»، بكل ما فيه من الطعام ورائحته وأسبابه، «متّكأ» كلمة تصور ذلك النوع من الطعام الذي يقدم إلى المجلس تفكّها وتبسّطا، وتجميلا للمجلس، وتوفيرا لأسباب المتعة فيه، ولذلك فالشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتّكاء» «٢».
وجميع التفاسير لا تبعد عن كون المتكأ نمارق للجلوس والإمساك بالسكاكين «٣»، ومن هنا يتبين لنا أن المحدثين تعمّقوا في جمالية الاختزان الذي يدعو إلى الترفع والتأدب في كلمات لا علاقة لها بالنساء، إذ كان نصيب التهذيب في شئون المرأة كبيرا عند القدامى.
- مفردات الإعجاز العلمي:
وأخيرا لا بدّ من القول إن التفسير العلمي الحديث جعلنا نتأكد من أن بعض المجاز في القرآن حقيقة، وذلك في مواءمة المفردة لكلّ عصر، فالدلالة تستمر وتتسع لمفاهيم كل عصر، ويتلقّف هذه المفردة كلّ حسب فهمه وقدراته العقلية ونوع ثقافته، وذلك من غير إقحام أو تقوّل، لأن مرونة الكلمة القرآنية ليست عشوائية.
يقول تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «٤» والاختزان يكون في إفهام هذا وذاك من البشر، وهذا مما يجعل في العقل مرونة، ويفتح باب التفكير.

(١) سورة يوسف، الآية: ٣١.
(٢) البوطي، من روائع القرآن، ص/ ١٤٤.
(٣) انظر مثلا أبو السعود، إرشاد العقل السليم: ٤/ ٢٧١.
(٤) سورة الفرقان، الآية: ٦١.


الصفحة التالية
Icon