الوعي اللغوي النشيط أدبيا كان يجد في كل زمان ومكان «لغات» وليس لغة، كان يجد نفسه أمام ضرورة اختيار اللغة» «١».
واختيار اللغة هاهنا يبدأ من اختيار المادة ثم الصّيغة، وهذا مبدأ كل من ابن سنان وابن الأثير «٢»، إذ يبدأ جمال اللغة في كتابيهما: «سرّ الفصاحة» و «المثل السائر» بباب طويل السّرد والشرح عن جمال المفردة، يليه باب جمال النظم، وباب جمال الحروف، وتبعهما رجال البلاغة في هذا الترتيب.
ولا مندوحة لنا من أن نضيف إلى كلام «بختين» أن المبدع يجتاز حياد المعجم، ويجتاز نشاطات الغير إن وقفوا على مادة نصه نفسها، أو خطرت على قلوبهم التجربة الشعورية نفسها، وهذا لا يعني أن تفقد المفردة حدّ المعقول، فيجنح الشاعر إلى موقف هزلي بين المادة والموضوع، فيصاب أدبه بداء الإغراب، لأنه لا يطالب ببديل عن الواقع، إنما يطالب بتلوينه بعيدا عن الخطل قدر المستطاع، بحيث لا يخفق في استدامة العلاقة بينه وبين المتلقي، مما يعود بالمفردة جثّة هامدة لا تمتّ بصلة إلى الوضع
الاجتماعي.
- خصوصية المفردة القرآنية:
لقد أثبت البيان القرآني جدارته بصفة الربط بين المتلقّى والنص بوشائج متينة، وهذا الاستحقاق يكمن في ديمومة ربط المرء بالواقع: الواقع النفسي في القدرة على إثارته على مرّ العصور، فتنبش مكوّنات أساسية في السلوك
(٢) عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، شاعر، أخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره، وكانت له ولاية بقلعة «عزاز» من أعمال حلب، وعصي بها، فاحتيل عليه ومات مسموما سنة ٤٦٦ هـ، له ديوان شعر مطبوع وكتاب «سر الفصاحة». انظر الأعلام: ٤/ ٢٦٦.
- ضياء الدين نصر الله بن محمد الجزري، وزير من العلماء الكتاب، ولد في الموصل، وكان وزير الملك الأفضل بن صلاح الدين، مات ببغداد سنة ٦٣٧ هـ له «المعاني المخترعة» في صناعة الإنشاء و «الوشي المرقوم في حل المنظوم» و «المثل السائر» و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور» و «ديوان رسائل» الأعلام: ٣/ ١١٠.