البشري، وهاهنا مخاطبة الخالق لما خلق، وكذلك الواقع المحسوس في تصوير جزئياته في الطبيعة الصامتة والمتحركة، والمشاهد المألوفة، وتقريب ما هو ليس بمألوف بإثارة الحواسّ والبصيرة، واستدامة صورته الفنية هي نتيجة ثبات الحواسّ وتأكيده على ربط الصورة بالحواسّ، وهكذا لم يرفض الواقع، بل نهض به ولوّنه.
ولغة القرآن الكريم عربية، ولا نحبّ أن نثبت له الصّفة الدينية فقط، أو الجهة العلوية، لنقرنه بالسّموّ، فهذا لا يدحض كلام جاحد، ولا يدفع هجوم منكر، والصحيح أن هذا الكتاب العظيم استخدام المفردات العربية أحيانا في غير مجالها المعهود، ففي مجال المضمون قلّص دلالات كثيرة، وبثّ فيها المعاني المغايرة بصبغتها الدينية، والشواهد كثيرة على هذا كالمصطلحات الدينية في العقيدة والتشريع «صلاة، نفاق، صراط.. ».
وإذا كان جمال مفرداته من مصدر إلهي، فهذا يعني بالضبط سموّ الفن القرآني في مضمار الفن الأدبي، وحجّته الأولى هي اللسان العربي الفصيح، وطبيعة الفن، وليس الدافع الديني، فنحن نلمس السرّ الإلهي في الكلام المبين من خلال الآثار الجليّة التي تدلّ على وجوب الاعتراف بالبيان لمن علّم البيان، يقول عبد الكريم الخطيب: «أفاض الله سبحانه عليها- الكلمات- هذا الفيض، ونفخ فيها من روحه، كما نفخ في عصا موسى، لكنه مع ذلك أبقى على تلك الكلمات طبيعتها التي يعرفها الناس منها، كما أبقى على عصا موسى طبيعتها كذلك» «١».
وهذا السر الإلهي ليس خفيّا على متذوق للعربية وفنّ الكلام، وهذه الخاصية للمفردة القرآنية تسري في الآيات في تلاؤم تام، ولا يمكن أن نعدّها تفضّلا أو ترفا ذهنيا، كما هي الحال في كثير من الأدب، وهي- المفردة- سامية بنسبتها إلى منزلها في إطار من البيان الذي يعيه العرب خاصة، فعلى قدر ما تكون الجهة المبدعة قوية، تخرج الكلمات قوية مؤثرة، وقريب من هذا ما يقوله لا سل آبر كرمبي: «إن المهارة في الأدب لا تتناول سوى الألفاظ التي