إنه يشير إلى دقّة الزمن المطلوب في كل من الدلالتين، ولم يكن أساسه من الموروث اللغوي، بل برهن على اطراد هذا الاستعمال في القرآن، وهو لا يتأثّر بالخطّابي الذي رأى خصوصية «فعل» بالعقوبات، فقد اختصّ «فعل» بالأفعال القبيحة من البشر أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ «١»، فقد دلّنا الزركشي إلى أن «فعل» إذا نسب إلى الله فإنه يتّسم بالقوة والسرعة، ولا يقتصر على معنى العقوبة «٢»، كما مرّ في الفصل الأول، يقول تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ «٣». وكل مظاهر القيامة تدلّ على السرعة والقوة.
من يطالع أسفار الدارسين القدامى يجد أن هذه المادة أي- مناسبة المقام- وفيرة، وذلك لأسباب عدة، وهي أنهم ناضلوا بإخلاص جاهدين للرّدّ على الملاحدة الذين يدّعون التناقض في القرآن الكريم، والخطل في استعمال مفرداته، فكان لا بدّ من تبيين سبب ذكر الانبجاس في موضع، والانفجار في موضع آخر وعلّة تقديم موسى على هارون في موضع، وهارون على موسى في موضع آخر عليهما السلام.
ويضاف إلى هذه الغاية الدينية الخالصة محبّتهم العميقة لأسلوب كتاب دنياهم وآخرتهم، فمنه استلهموا أسس حياتهم، وأرسوا قواعد مجدهم، وهذا مما حدا بهم على إبراز جماليات دقة الاختيار في الكتاب المعجز.
ومن هذه الأسباب وفرة الثروة اللغوية، فأكثرهم لغويّ متمعّن، كما يظهر في مناقشاتهم، ومنهم من كان ذا مكانة كبيرة في اللغة كالزمخشري والسّيوطي.
ومن هذه الأسباب أيضا قرب عهدهم بزمن الفصاحة، لذلك وجد المحدثون الكفاية في كتب أسلافهم، وأكثر من اهتمّ بالفروق عائشة عبد الرحمن، وقد ذكرنا نتفا من كتابيها في الفصل الأول، حيث كانت تنفي وجود الترادف في القرآن وتقرّ به في اللغة.
(٢) انظر الخطابي، ثلاث رسائل، ص/ ٥٣.
(٣) سورة الأنبياء، الآية: ١٠٤.