متمكنة من موضعها بمنزلة اللّبنة المطلوبة للبناء الكلّي.
من أولى هذه الملاحظات الفنية تأمل الرماني في تشبيه أعمال الكفار في قوله عزّ وجلّ: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً «١» فإنه يقول: «ولو قيل يحسبه الرّائي ماء، ثم يظهر على خلاف ما قدّر لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن، لأنّ الظمآن أشدّ حرصا عليه، وتعلّق قلب به» «٢».
وهو لا يكتفي بجمال التشبيه الحسّي، بل يؤكّد لنا إحكام الصورة بما يؤثّر تأثيرا حسّيا في المتلقي، ومن الواضح عدم الترادف بين الظمآن والرائي، وإن هذا الميل إلى الحسية يؤكد الحد الأقصى من التأثير في الإنسان، لأن أقوى متطلباته تتعلّق بالحسية.
ومنه على سبيل المثال قوله تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ «٣» واقترنت كلمة غليظ، بالميثاق ثلاث مرات في قوله تعالى:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «٤» عن إمساك الزوجات أو تسريحهنّ، وقال عن بني إسرائيل: وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «٥»، وقال عزّ وجلّ: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً «٦».
وتشير كلمة «غليظا» هنا إلى أهمية الرسالة السماوية وصدق الأنبياء، كما أن غلظ العذاب مناسب للشعور بوطأته على جسوم الآثمين، فالانتقال من حسّية إلى حسية أعمق تأثيرا، والميثاق معنى ذهني، والغلظ يدلّ على تأكيده.
وقد قال تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ «٧» فقد عدل عن الإحراق إلى التّحطيم، لأن إيلام النار المحطّمة

(١) سورة النور، الآية: ٣٩.
(٢) الرماني، ثلاث رسائل في الإعجاز، ص/ ٧٥.
(٣) سورة لقمان، الآية: ٢٤.
(٤) سورة النساء، الآية: ٢١.
(٥) سورة النساء، الآية: ١٥٤.
(٦) سورة الأحزاب، الآية: ٧.
(٧) سورة الهمزة، الآيات: ٤ - ٦.


الصفحة التالية
Icon