ما في كتبه الموجودة يعد شذرات نفيسة حول النظم، إذ يقول في رسائله موضّحا غلط الناس في شأن جمال المفردة: «لأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها... وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين، ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربّنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كلّه في القرآن» «١».
ولا يريد من كلمة «لفظ» إلا الصياغة الفنية الكلية المتعينة في النظم، ومن المؤكّد أنه يريد بالنظام مفهوم النظم نفسه، ذلك النسق الذي يربط الكلمات فيما بينها، وهو أوّل من أولى النظم أهمية، وأوّل من فرّق بين الشكل والمضمون، ورأى روعة البيان في الصياغة، لأن المعنى في رأيه متوفر لكل شخص، على الرغم من أنه وقف على جماليات المفردة في مواضع كثيرة من كتابيه «الحيوان»، و «البيان والتبيين» كما سنرى.
ولكن العلماء بعده قد تمسّكوا بالنظم، وجعلوه مناط الإعجاز البياني، لأن القرآن- في رأيهم- يتشكل من مفردات عربية متداولة، وجارية على الأفواه، وذلك تأسّيا- فيما يبدو- برأي الجاحظ.
ويطالعنا الخطّابي «٢» في القرن الرابع بنظرات في النظم القرآني، ويبدو أنه يؤكد فكرة النظم من غير المغالاة فيها، إلا أنه لا يقول برأي صريح في جمال المفردة إلا عرضا، وفي تعرّضه للفروق كما سنرى.
وقسم الرماني «٣» البلاغة إلى ثلاثة أنواع، وجعل المرتبة العليا للقرآن،
(٢) الخطّابي: هو حمد بن محمد البستي من أهل بست من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب، فقيه محدّث، من كتبه «معالم السنن» و «إصلاح غلط المحدّثين» و «غريب الحديث» توفي سنة ٣٨٨ هـ. انظر الأعلام: ١/ ٢٧٣.
(٣) الرّمّاني: هو علي بن عيسى، باحث معتزلي ومفسر، ونحوي، أصله من سامرّاء، ومولده ببغداد سنة ٢٩٦ هـ ووفاته بها سنة ٣٨٤ هـ، له نحو ١٠٠ مصنف منها «الأسماء والصفات» و «التفسير» و «شرح سيبويه» و «النكت في إعجاز القرآن»،