الحروف التي هي نظم القرآن منظومة كنظمه، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطّرادها، وما تحدّاهم إلى أن يأتوا بمثل هذا الكلام القديم الذي لا مثل له.. لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وكذلك ما دون الآية كاللفظة، وليست بمفردها بمعجزة» «١».
ففي هذا الكلام نحسّ بوضوح روح الجرجاني الذي صال وجال، ليثبت هذه الفكرة، وفنّد وسفّه، ليبعد كلّ شبهة عن نظرية النظم، وفي هذا إهمال لتتابع الحروف وتلاؤم المخارج، وسهولة النطق، ومناسبة النغمة للموقف في المفردة، وهي الوحدة المكوّنة، وهذا يناسب كلامه الطويل عن «العذب والرّقيق والفصاحة» ويصبح بمنزلة تفسير لإجمالها.
لم يكتف الإمام عبد القاهر بنتف متفرقة لتعريف نظريته، وبسط شاهد عابر، فكل كتابه «دلائل الإعجاز» شرح لها، وذلك في مسيرة ذات حدين: إيجابي يقول بالنظم، وسلبي: ينفي فصاحة المفردة بتاتا، ففي صريح العناوين يذكر نفي الفصاحة في عشرة فصول، ويعود إلى هذا بعد كل تقديم لوجه من وجوه النظم تقريبا، كأن ينتهي من التنكير أو الإضافة، فيعود إلى تسفيه من يؤيّد فصاحة المفردة.
ومنهجه عملي إذ يعتمد التأمّل العميق في الأسلوب القرآني، ويستشهد بالشعر من غير أن يهمل النص القرآني، بل يكون الشعر عونا في كشف جمال القرآن، فالشعر لتبيان وجه الصيغة وقانونها، وليس للمقارنة بين مضمون ومضمون، أو صيغة وصيغة، حتى إنه يلجأ إلى تأليف جمل تساعده في توضيح الفكرة، كما هي الجال في فصل التنكير والمبتدأ والخبر، وهو على الرغم من إطنابه يعود، ليقدم تعريفا لنظريته، وكأنما يخشى خللا في تفهم القارئ، ومما يحسب له، ويحمد عليه، نظرته الكلية إذ استطاع أن يقدم نظريته في وقت كانت فيه النظرات جزئية منثورة، وسطحية أحيانا.

(١) الباقلّاني، إعجاز القرآن، ص/ ٢٦٠، ومراده بالكلام القديم: الكلام الذي لم يتشكل بصورة معينة، وهو الكلام النفسي، وهذا مصطلح كلامي والمعروف أن الباقلاني كان إماما من المتكلمين الأشاعرة، والكلام النفسي ينزل بلغات متعددة.


الصفحة التالية
Icon