كليا، بل جعل الأمر ثانويا، بالنسبة إلى ما أجهد نفسه في الدّفاع عنه، فقدّم حصيلة بيانية جيدة، ونحن نقرأ في رسالته الشافية، ما ينمّ على قانون ذوقي ذاتي لا يميل إلى الموضوعية كما في شرحه في النظم،- فقد قال: «واعلم أن لكل معنى نوعا من اللفظ هو أخصّ به وأولى، وضربا من العبارة، هو بتأديته أقوم، وهي فيه أجلى وما إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقول أخلق، وكان للسّمع أدعى، والنفس إليه أميل» «١».
ونطرح جانبا مفهوم «اللفظ» الذي ربما نحا فيه نحو الجاحظ، فعنى به هنا الصّيغة الفنية كلّها، وما ندعوه في عصرنا بالشّكل، خصوصا أنه لم يقل: لفظة أو ألفاظ، ويبقى لنا من عبارته ما يكون «أدعى للسّمع»، ولعله يريد الصورة الأولى من حيث حلاوة النغم والبناء الداخلي للمفردات، أي ما يتعلّق بالسمع قبل ميل النفس إلى جليل المحتوى، ولا نتكئ على قول عابر لنعبّر عن تزحزحه عن مزايا النظم وطواعيته للنحو.
لم يخرج المحدثون على نظرية عبد القاهر، ولم يحاولوا إبطالها، فقد أقرّوا بها، وبينوا الجوانب التي أغفلها، فلم يقدموا المفردة بديلا، بل أضافوا جمالها إلى السياق الكلي، ومعظمهم ينقده من الجانب الشكلي للمفردة، وهذا ما يتّضح لدى سردنا لجهود الدارسين في الجمال السمعي.
ومن الذين طبّقوا فكرتهم على شواهد الجرجاني أحمد بدوي، إذ جاء في كتابه الذي يذكر فيه الآية: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي «٢»:
«وجاء بكلمة «بعدا» دون «هلاكا» مثلا، إشارة إلى أن هؤلاء القوم الظالمين، إنما قصد إبعادهم عن الفساد | وأحسّ في كلمة «بعدا» دلالة على الراحة النفسية التي شعر بها من في الكون بعد أن تخلّصوا من هؤلاء القوم الظالمين» «٣». |
(٢) سورة هود، الآية: ٤٤.
(٣) بدوي، د. أحمد، ١٩٥٠، من بلاغة القرآن، ط/ ٣، مكتبة النهضة، القاهرة، ص/ ٥٦.