فالجرجاني يقف على «بعدا» ويرى جمالها في التنكير فقط، لأنه يدل على الكثرة والتهويل والغموض، وهذا واضح، أما الدلالة التي أضافها بدوي فهي البعد النفسي في اختيارها هي لا الهلاك، فتصوّر الكلمة كرههم، وهم موتى كيفما كان هلاكهم، فهم في منطقة بعيدة، وهذا يريح النفس، ووجود «هلاكا» لا يخلّ بالنظم الذي رامه الجرجاني.
ولا يعني هذا أن البعد النفسي قد غاب عن الجرجاني، ولكن هذه المفردة «بعدا» تعني تملّك المفردة لموقف خاص، ففيها إيحاء نفسي واضح، ولكن انتبه الجرجاني إلى كون المفردة المعبرة عنه في حالة التنكير، وهذا ينطبق على الفرق بين «جفّفي.. و.. ابلعي» كما جاء عند البوطي.
ففي الآية نفسها يقول محمد سعيد رمضان: «أرأيت أنه لم يقل: «جفّفي ماءك» مثلا مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال:
«ابلعي ماءك» ليصور لك بأن الأرض لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامّها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا: فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها، وإنما بالانقياد لأمر خالقها جلّ جلاله» «١».
ولا يجوز أن نعد كلام محمد سعيد رمضان البوطي ضربا من التأويل الخاص الذي يتخذ سمة دينية، لأن الحدث، كما يصوره المؤرخون الآن، ومنقبو الآثار، عظيم جدا، وقد كان خرقا للنواميس مصدره خالق هذه النواميس «٢».
وبهذا التأويل الجمالي تتحقق الغاية الدينية في صدق الصورة، وترسم الكلمة مشهد الطوفان الهائل، وما تبعه من ابتلاع، وليس التجفيف، الذي يدلّ على قلّة المياه، وهذا ما فات الجرجاني، لأن فعلي «جفّفي وابلعي» من جهة الإسناد متساويان فالمخاطب واحد، ولا إخلال بالنظرية المبنية على علم النحو.

(١) البوطي، د. محمد سعيد رمضان، ١٩٧٠، من روائع القرآن، ط/ ٢ دار الفارابي دمشق، ص/ ٢٦٩.
(٢) انظر مثلا بوكاي، موريس، ١٩٩١، دراسة الكتب المقدسة، ط/ ١، دار دانية للطباعة والنشر، بيروت، ص ٢٤٥.


الصفحة التالية
Icon