ولهذا كان السمع هو المعيار الأول، وفي هذا الصدد يقول إبراهيم أنيس:
«وفي رأيي أن هذه الظاهرة الموسيقية في اللغة العربية تعزى إلى تلك الأمية حين كان الأدب أدب الأذن لا أدب العين، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص اللغوي، فاكتسبت تلك الآذان المران والتمييز بين الفروق الصوتية الدقيقة» «١».
ولا يعني هذا مجرد استمتاعهم بصوتيات القرآن، فقد عرفوا أيضا أنها قوالب فنيّة لمضامين فكرية جديدة، فالتعلّق لم يكن شكليا محضا، ونحن نعترف بأن كتابة الشعر كانت قليلة في الفترة الجاهلية، وهنالك أمم كثيرة بدأت نتاجها الأدبي بالأدب الشفوي، وكانت تهتم بتصوير الأساطير، ولكن لا تمتلك لغاتها هذه الموسيقية، إلا أنها غنّت نتاجها الأدبي، وكذلك كانت الالياذة والأوديسة.
ونرجّح أن السبب هو طبيعة اللغة العربية التي نشأت موسيقاها وفق ذوق أوّلي، ثم صار هذا الذوق قانونا موسيقيا، ثم نزل القرآن الكريم بتشكيل فريد، وذلك بلجوئه إلى مزية خاصة، وتخيّره وتهذيبه للمفردات، وليس من الضروري أن يكون تفشّي الأمية السبب الوحيد، لأن الشعر قديم، ولكل قديم منه معايشة شفوية في زمن ما.
ونودّ في هذه الفقرة أن نبين أن دراسة العنصر الموسيقى للقرآن ليست وليدة عصرنا، وما يشغلنا هاهنا محاولة استقصاء بعض الدلائل والمواقف التي تبرهن على وجود تذوق سمعي عاصر البعثة النبوية الشريفة، وكذلك نبحث في الدلائل القرآنية الداعية إلى مراعاة الإعجاز الموسيقى وتفهّمه، وكذلك لا بدّ من الإشارة إلى مقارنتهم القرآن بالشعر وقضية المعارضة التي تتصل بموسيقا القرآن.