لشكل البيت الشعري، ففيه ضرب وعروض وقافية وصدر وعجز، والمتعة في الآية كلّها، وقد بدأ بالفاصلة لشدّة ظهورها، ومن ثمّ عاد إلى نسق الكلمات داخل الآية، فلا خلل حتى الوصول إلى إشباع هذه الموسيقية بالفاصلة، وكلمة «مغدق» تشير إلى كثرة المياه، ولذلك اتصلت بالكرم، فقالوا: أغدق عليه، أي أكثر العطاء، وهاهنا تدل على سلاسة النطق، ولين الحروف، وهذا أيضا في «طلاوة» التي تنمّ على اللّيونة لا الخشونة، والقرآن لم ينزع إلى غريب وحشي، فقد نبذ ما هو سوقي ومستثقل، ووثّق للأمة العربية ما هو رفيع سام، وكأنّ «الطلاوة» ذلك التأنّق الفائق الحسن.
ولم ينس الوليد جزالة القرآن وفخامته، فهو «يحطم ما تحته»، والعبارة هنا تشير إلى مناسبة الكلمات للمواقف، فهي شديدة في موقف مثل قوله تعالى:
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ «١»، ولينة في مواقف الرحمة والعطف، والانسجام متحقق في الطرفين، فمن دواعي الشدة والوعيد وجود الطاء والشين، والوقوف على الدال وتكريرها، وسكون الطاء، ومثل هذا كثير.
لقد اعترف بموضوعية خالصة بتفوق القرآن على الشعر، يقول البيومي عن سبب مقارنة القرآن بالشعر هنا: «وإنما تحدث الوليد عن الشعر دون النثر، مع ما كان في قريش من فرسان الخطباء، لأنه بداهة دون الشعر تأثيرا، وعمق نفاذ، وأن سطوة البيان القرآني قد فاقت سطوة الشعر المأثور، فأحرى بها أن تفوق الأقوال من خطب
ومنافرات وأمثال» «٢».
والشعر أعقد فينا من فن النثر، ونضيف إلى كلام البيومي أن الوليد اكتشف بفطرته العنصر الموسيقى في الجزئيات، وهو قلّ أن يراعى في النثر إلا ما يكون في شكله الظاهر من توازن وتسجيع، وأن تنوع رويّ الفواصل يتبع تنوع المعاني، وهذا غير وارد في النثر، والقرآن لم يتحدّ قريشا وحدها، بل تحدّى كل العرب، وقد اشتهروا بالشعر، بل كان في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام
(٢) البيومي، د. محمد رجب، ١٩٧١، البيان القرآني، ط/ ١، دار النشر، القاهرة، ص/ ١٣.