فإن الذين حفظوا القرآن من الصحابة كانوا كثيرين حتى بلغ عدد القتلى منهم في بئر معونة ويوم اليمامة مائة وأربعين «١» على أرجح الروايات، وسيأتي الحديث عن بعضهم مفصلا في المبحث القادم إن شاء الله تعالى.
ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، يعد أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، فجاء في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد: أن النبي ﷺ قال: (إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت له: رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة، فقال: مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا، فابعث جندا أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق من ينفق عليك) «٢».
فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأ في كل حال كما جاء في الأثر عن صفة أمته صلى الله عليه وسلم: (أنا جيلهم في صدورهم) «٣»، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا
(٢) مسند الإمام أحمد، حديث رقم (١٧٥١٩): ٤/ ١٦٢؛ وينظر: النشر في القراءات العشر: ١/ ٦.
(٣) المراد: كتابهم المقدس وهو القرآن لأن المسلمين ليس لهم أناجيل، وإنما ذلك للنصارى، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) [سورة الأعراف، الآية (١٥٤)]. قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس... فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد... قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال قتادة: فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السّلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. ينظر: تفسير ابن كثير: ٢/ ٢١٧؛ والمدخل لدراسة القرآن الكريم: محمد بن