يا أبتِ افعل ما تؤمر
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية.
والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا المقام المبارك هي: قول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح والنبي الصالح إسماعيل: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]، فلم لم يقل إسماعيل: افعل ما تريد، وهو يخاطب أباه خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ هذا ما تحاول هذه الحلقة المباركة إماطة اللثام عنه، فنقول: خليل الله جل وعلا إبراهيم هو أفضل الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد نسب الله جل وعلا الملة إليه، قال سبحانه: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨]، وأمر الله جل وعلا نبينا عليه السلام باتباع هدي ذلك النبي الكريم: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٣]، كبر إبراهيم في السن فتضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقه غلاماً صالحاً، قال الله جل وعلا عنه: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٩٩ - ١٠١].
نشأ هذا الغلام حتى أصبح قادراً على أن يعين أباه، قال الله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات: ١٠٢]، أي: القدرة على المعونة، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات: ١٠٢]، يقدر لإبراهيم أن يرى في المنام أنه يذبح إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق: ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢]، وهذا من باب أن يوطن الأب ابنه على طاعة الله، فلو امتنع إسماعيل وقدر إبراهيم على ذبحه لذبحه، لكنه أراد أن يشتركا سوياً في الأجر، قال الله جل وعلا: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢]، الآن هذا موضع الحلقة الحقيقي وهو: لماذا قال الله جل وعلا: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]، ولم يقل: افعل ما تريد؟ إن ثمة فرقاً كبيراً جداً بين اللفظتين: فلو قال إسماعيل: يا أبت افعل ما تريد! فهو في غاية الأمر ابن يطيع أباه، أو جندي يطيع قائده، أو مأمور يطيع آمره، لكن إسماعيل عليه السلام عدل عنها إلى قوله: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]؛ ليبين أنه عبد يطيع ربه، فإسماعيل هنا قبل أن يذبحه أبوه، لا لأن أباه يرغب في ذبحه محال، لكن لأن الأب بذبحه لابنه إنما ينفذ أمر الله، فإسماعيل هنا إنما يطيع أباه إبراهيم على أن ينفذ أمر الله: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]، ولم يقل: افعل ما تريد، وقطعاً فإسماعيل عليه السلام ما كان له أن يصل إلى هذه المنزلة في الأدب والتسليم والعبودية لولا فضل الله جل وعلا ورحمته عليه، وهذا الفضل من سماته: أن الله جل وعلا جعل إسماعيل يربى وينشأ في كنف خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولقد اجتمع في قلبي هذين النبيين من التوحيد والاستسلام لأمر الله جل وعلا ما جعل الأب يفزع إلى ابنه ويخبره بما أوحى الله جل وعلا به إليه، وما جعل الابن يطيع أباه ويقول له معيناً له على الطاعة: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢]: هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديان هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران وبه فدى الله الذبيح من البلا لما فداه بأعظم القربان صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.